إبراهيم الأمين
كيف يمكن لعمرو موسى أن ينفذ بجلده من هذه الشبكة العنكبوتية التي تلفّ لبنان والمنطقة؟
حتى مساء أمس، كانت الأفكار المتوالدة بحثاً عن حل تموت في أرضها. كل طرف يطرح فكرة ويُسَرّ بأنها قابلة للحياة. مساعدو الأمين العام للجامعة العربية يكتبون المزيد في دفاتر مذكراتهم المرشحة لنيل جوائز عن أفضل رواية للأحجية اللبنانية، والقيادات السياسية اللبنانية تفكر يومياً في ما يقع تحت باب «حرب النوايا» المندلعة دون هوادة، التي تعكس مللاً محلياً تقابله تعبئة قائمة في الشوارع والحارات بحثاً عن طريدة من أبناء الحي الثاني.
قيادة الجيش وقيادة قوى الأمن الداخلي استسلمتا لقوى الأمر الواقع، وبدل اللجوء إلى إجراءات واضحة ومباشرة، اضطرتا إلى البحث في أرشيف الحرب الأهلية الطويلة، ولم تخرجا سوى بفيلم اللجان الأمنية المتنقلة. الآن شهد لبنان ولادة اللجنة الأمنية المركزية بين القوى الإسلامية المتنافسة. وفي وقت ليس ببعيد، سوف نكون أمام اللجنة الأمنية المركزية عند المسيحيين، ثم لن نلبث أن نحفظ أسماء أعضاء اللجان الفرعية والمتفرعة في المدن والأحياء. ولا يمر وقت طويل قبل أن تعقد عشرات القمم الروحية والمصافحات السياسية، وغيرها من ألاعيب يفترض أن اللبنانيين سئموا منها سابقاً. ولكن حرارة التوتر الحالي تشير إلى شوق إليها ولو عن طريق جيل جديد.
لكن أين تكمن المشكلة؟
لن يتوقف فريق الأكثرية عن اتهام سوريا وإيران والقوى الحليفة لهما في لبنان بالوقوف وراء التوترات. فيما لن تكون المعارضة محتاجة إلى كثير عناء لاتهام الولايات المتحدة والسعودية بالوقوف وراء الفتنة المتنقلة. وسوف يعيش اللبنانيون وقتاً طويلاً وهم يستمعون إلى تبادل الاتهامات، لكن دون التأكد هذه المرة من حجم الكوارث التي سوف تنجم عن هذه المواجهات، علماً بأن الأطراف كافة سوف تكون محتاجة إلى من يموِّل حربها، وإلى من يتولّى تسويقها خارجياً، وإلى من يغطّيها إقليمياً ودولياً. وبالتالي، فإن القوى الداخلية سوف تكون أمام اختبار صعب، وليس مقدّراً حتى الآن توقع حصول مساءلة شعبية من النوع الذي يمنع تجدّد المواجهة.
إلا أن الواضح في الأمر، وما سوف يكون سبباً في فشل عمرو موسى، هو ما يتصل بالتورّط السعودي الغريب والمفاجئ من حيث حجمه وشكله في الملف اللبناني، وليس في الجانب التقليدي منه بقدر ما يتصل الأمر بخوض معركة ضد نفوذ آخرين. وتقع في هذا السياق المعركة المفتوحة من جانب السعودية على سوريا في قلب سوريا وفي لبنان أيضاً، إلى جانب التعبئة السعودية غير المسبوقة ضد حزب الله والمقاومة، واتهام فئة كبيرة من المسيحيين بالخروج عن دولة لبنان التاريخية.
ومن المفارقات القائمة الآن في السلوك السعودي يسجل الآتي:
أولاً: وقوف السعودية إلى جانب القوى المناهضة لتيار المقاومة، وذلك في لبنان وفلسطين والعراق، وإعلان الانحياز غير المسبوق إلى جانب المشروع الأميركي. وعندما تحصل مناقشة للجانب السعودي، يخرج من يقول لك: ألم تسمع الملك عبد الله يصف الوجود الأميركي في العراق بأنه احتلال غير مشروع؟ وكأن هؤلاء يريدون أن يبرّروا كل خطوات التسوية والتسويف القائمة من جانب القيادة السعودية وأجهزتها الأمنية، بموقف يطابق الحد الأدنى من الأمر المطلوب، علماً بأن هذا الموقف يظل في إطار الكلام فقط، فيما تعمل الأجهزة الأمنية السعودية على تسهيل انتقال عشرات بل مئات الانتحاريين من الذين يحملون الجنسية السعودية إلى العراق تحت حجة التخلص منهم، فيما هم يفجّرون أنفسهم بين المدنيين العراقيين.
ثانياً: إن السياق الأسود للمشروع الأميركي ــــ الإسرائيلي في المنطقة، الذي يتطلب الآن توجيه ضربات قاسية إلى قوى المقاومة في لبنان وفلسطين والعراق، يحتاج إلى ضربات أقسى لسوريا وإيران، وهذا يستوجب تعبئة من نوع خاص، ولا سيما تلك التي تُحدث انقساماً صعباً بين الناس، وليس في يد الأميركيين من حيلة سوى الفتنة الطائفية، مستفيدين من تعاون قسم من شيعة العراق معهم في مشروع تقسيم العراق، ودفعهم إلى مواقع ذات طابع مذهبي مقيت، ما يتيح للأميركيين تحويل صراعات جماعاتها وعملائها من الشيعة والسنّة في العراق إلى فتنة يراد تعميمها على الأمكنة ذات التوجه السياسي المختلف: إذ كيف يمكن زرع الشقاق بين جماهير حماس وحزب الله والمقاومة العراقية بغير
الفتنة؟
ثالثاً: إن واقعة اغتيال القائد العسكري في حزب الله عماد مغنية، ولو كان عملاً أمنياً يمتد إلى عقدين، هي واقعة مذيّلة بتوقيع سياسي، هو التوقيع نفسه الذي مُهرت به مذكرات عمل سرية تستهدف تصفية ما أمكن من قادة المقاومة، ضمن سياق سوف يأخذ المنطقة إلى المواجهة الأقسى، تلك التي لن تعفي الأميركيين والإسرائيليين من دفع ثمنها، وهو ما يجعل الأطراف الحليفة لواشنطن مباشرة، والمتحالفة موضوعياً مع إسرائيل، تقوم بأدوار من النوع القذر الذي يبرَّر بالدفاع عن مصدر العيش المادي والسياسي، وهو ما يبرِّر الخطوات الاستفزازية القائمة من جانب قوى وأقطاب المحور الأميركي، وهي الخطوات الهادفة إلى اندلاع حروب طائفية وضرب الاستقرار في كل الدول الرافضة، تمهيداً لشن العدوان الأوسع في تاريخ الصراع العربي ــــ الإسرائيلي.
وسط هذه الأجواء، يصعب توقّع انفراجات من تلقاء نفسها، تماماً كما يصعب توقّع تنازلات أميركية أو أوروبية أو سعودية في لبنان وفلسطين والعراق. وما دامت هذه التنازلات لن تحصل، فإن المتوقع هو المزيد من التوتر ومن التشنّج ومن العوائق السياسية، حتى لو بُنيت على أوهام، كما حصل يوم 14 شباط، عندما ظن فريق الأكثرية أنه نجح في جمع مليون ونصف مليون مواطن في ساحة لا يمكن أن تضم أكثر من مئتي ألف شخص.
لكن هذا الوهم ليس من النوع القابل للعلاج، إلا إذا قامت في المقابل حركة رافضة، وهو أمر غير متوقع في ظل الانقسام الطائفي الحاد الذي يعيشه لبنان حالياً.
فكيف يمكن، في ظل هذه الأجواء، لعمرو موسى أن يقنع نفسه بأن أمامه فرصة للتوصل إلى اتفاقات كبرى؟ حتى الهدنة في حدّها الأدنى لو توافرت، فسوف تكون من النوع الأكثر هشاشة في تاريخ لبنان.
فهل يريح موسى نفسه ويريح اللبنانيين من أوهام الحلول غير الممكنة، ويبقّ بحصته، حتى لو كانت لمصلحة فريق دون فريق آخر؟