إبراهيم الأمين
إذا كان فريق الأكثرية لا يريد الاتفاق، أو أنه مغلوب على أمره وليس بمقدوره التوصل إلى اتفاق، وإذا كان الأميركيون يريدون جرَّ لبنان إلى فتنة تأكل كل شيء وتضعف المقاومة، وإذا كان الغربيون وبعض العرب لا يأبهون بلبنان إذا لم يكن تحت سيطرتهم، ولا يهتمون لأمر بقائه مستقراً... فماذا تفعل المعارضة؟
جولات الحوار التي جرت حتى الآن مع الأمين العام للجامعة العربية عمرو موسى، تدل على أن المعارضة تسير في الاتجاه نفسه. لا مبادرة بيدها، تتلقى دون أن تعدِّل في جدول الأعمال. ترهن موقفها بما يقوله الفريق الآخر أولاً، وتقترح ما يكون رداً مقابلاً على اقتراحات الآخرين. وكلما توتر الوضع سياسياً وجدت المعارضة نفسها مضطرة لأن تقف منتظرة ما سوف يبادر إليه الآخرون داخلياً وخارجياً.
داخلياً، تعيش قوى المعارضة رعب التوتر في الشارع، وتبدو في معظم الأحيان في موقع دفاعي أمام هجوم سياسي وإعلامي وغير مدني من جانب الطرف الآخر. ويبدو فريق الموالاة، على كل مشاكله، أكثر قدرة على التعبير عمّا يريده، وأكثر حركة وسط الجمهور. كذلك يجيد فريق الموالاة الاستفادة من الدعم الخارجي له، لناحية استثمار المواقف الخارجية والقرارات الدولية بطريقة تبقيه ممسكاً بزمام المبادرة. وأقله، فإن قوى الموالاة نجحت حتى الآن في احتواء واستيعاب كل أشكال التحرك الاحتجاجي الذي قامت به المعارضة، من استقالة الوزراء التي لم تعطِّل حكومة الرئيس فؤاد السنيورة، والعودة التدريجية إلى صفوف الحكومة، تارة من خلال همِّ تسيير أمور الناس، كما هي الحال في وزارة الصحة، وتارة أخرى لمنع بروز موقف واحد في السياسة الخارجية من خلال استئناف الوزير فوزي صلوخ نشاطاً إدارياً في قصر بسترس، ومرة ثالثة لمنع سيطرة فريق الموالاة على إدارة الضمان الاجتماعي، فيعود الوزير طراد حمادة إلى مكتبه. وفي كل الحالات، لم تنجح خطة المعارضة في إسقاط الحكومة وفي تعطيلها.
وأكثر من ذلك، فإن الاعتصام المفتوح وسط بيروت، الذي كان كثيرون يعوِّلون عليه لأن يكسر الصمت ويجبر حكومة السنيورة على الرحيل، تبيّن أنه غير ذي جدوى في هذا السياق، إلا إذا كانت له وظيفة أخرى لا يشعر اللبنانيون بها. لكن النتيجة أن عنوان الاعتصام والتحرك كان لإسقاط حكومة السنيورة. لكن الأمر لم يحصل، ومهما كان أمير السرايا الكبيرة صامّاً لأذنيه، فإن الجميع يدركون أن القدرة على إسقاطه باتت رهن انقلاب سياسي كبير أو تسوية سياسية في البلاد. وبالتالي تبقى ورقة الاعتصام قابلة للاستخدام، لكنها لم تعد قابلة للصرف في سوق معركة إسقاط الحكومة.
خارجياً، تبدو الصورة أكثر تعقيداً، فعندما قدرت المعارضة أنها قادرة على منع سوريا من الذهاب في تسوية مع مصر أو فرنسا لأجل إنتاج حل في لبنان، وتمثل ذلك في عدم نجاح المبادرة الفرنسية، وبرغم أن الأميركيين أسهموا بقوة في منع الاتفاق عن طريق فرنسا، وشاركتهم السعودية في هذه المهمة، إلا أن المعارضة لم تجد استثمار الجهد السوري ـــــ الفرنسي، وأطاحته لمصلحة برنامج عمل اقتصر على فتح باب التفاوض بواسطة الجامعة العربية مع ثقة مسبقة بصعوبة التوصل إلى اتفاق، وهو ما كان يدفع الرئيس نبيه بري مراراً وتكراراً إلى القول إن الأمر لم يعد في لبنان، علماً بأنه يعرف أن الأمر ليس كذلك بصورة تامة، لكنه كان يشير إلى أن المعارضة لا تجيد ترتيب أمورها بطريقة جيدة وهو يقول: «صحيح أن العماد ميشال عون هو مرشحنا للرئاسة، وهذا أمر لا لبس فيه، لكن ظروف إنتاج حل وتسوية تعني أنه المرشح المستحيل، بمعنى أنه يصعب إنتاج تسوية مع الطرف الآخر على قاعدة أن عون هو الرئيس، وبالتالي فإن الإتيان بشخص آخر هو الذي يحتم الوقوف في منتصف الطريق. وقد جاء العماد ميشال سليمان ليقف في هذه النقطة، وبمعزل عن الظروف التي جعلت الأمر يصل إلى هذه النقطة، لا يمكن التعامل مع ترشيح سليمان على أنه غير حقيقي، ومن ثم إدارة المفاوضات». ويرى بري في هذا المجال مسؤولية كبرى تقع على عاتق المعارضة التي «يفترض بها اللحاق بالكذاب إلى باب الدار، لأننا نعرف أنهم لا يريدون حلاً، وأن قوى دولية تدعمهم على السير بهذا الموقف».
ومع اندلاع المفاوضات الصاخبة حول المبادرة العربية، نجح فريق الموالاة طوال الفترة السابقة في إقناع الجمهور بأن المعارضة هي من يرفض الحل. واستفادت بقوة من موقف الدول العربية، ولم تنجح المعارضة حتى في تسويق واستثمار المستجد في الاجتماع التالي لوزراء الخارجية العرب الذي ثبّت المبادرة من دون تفسيرات عمرو موسى، وبدا الموقف أقرب إلى تنازلات في الوقت الضائع. وبالتالي فإن أزمة الثقة الكبيرة «يمكن ملاحظتها في كل كلمة وكل نظرة وكل سؤال يطرح خلال المداولات الثنائية أو الجماعية» على ما يقول مساعد الأمين العام للجامعة السفير هشام يوسف. وفي كل مرة يعلن فيها الرئيس نبيه بري تأجيل الانتخابات الرئاسية، تخرج الموالاة بحملة إعلامية وسياسية تفرض مناخاً مختلفاً، وتجبر المعارضة على قول ما تريد قوله في إطار الدفاع عن النفس، ما يجعلها في معظم الأحيان في موقع أضعف.
يبقى أن المعارضة التي عالجت أخيراً مسألة الحضور السنّي في المفاوضات الجارية، لم تجد بعد حتى الآن الشريك السنّي الفعلي القادر على خلق مناخ مختلف على الأرض. ولا أحد يفهم سر الانقطاع الحاد في التواصل مع قوى بارزة في الساحة السنية مثل الجماعة الإسلامية، وتركها واقعة تحت تأثير فريق الأكثرية من جهة، وأسيرة للوضع الناجم عن مناخ شعبي أكثر ميلاً نحو تيار «المستقبل». وثمة جهد ضائع في هذا المجال من جانب قيادات المعارضة.
وإذا كانت الموالاة لا تريد الحل، وفيها من الأطراف الراغبة بالفتنة كي تعيش على نتائجها، فإن من المنطقي توقع موقفها الرافض للتسويات، لكن هل بين المعارضين من يجيب الجمهور عن سبب سيرها بأيديها وأرجلها نحو هذه الفتنة؟ أيهما أقسى: التنازل قليلاً أم مقايضة التصلب بفتنة لا تبقي شيئاً؟