إبراهيم الأمين
ليس بمقدوره ضبط أعصابه. لا مهدّئات ولا خلف ذلك من أدوية الأعصاب تنفع في حالته. حتى الكميات الإضافية من الكحول لم تعد قابلة لضبط جهازه العصبي بما يمنعه من الفوضى العقلية التي تجعله يقول ما يقوله في نفسه لحظة التأمل التي يلجأ إليها في حالة ارتفاع منسوب الثأر. ويبدو أن حالة جنبلاط قابلة للتدهور يوماً بعد يوم، وخصوصاً عندما يشعر بصعوبة مناقشة كل من حوله. وهو أصلاً تجاوز هذه المرحلة منذ وقت طويل. فلم يعد يسمع رأياً مخالفاً في كل محيطه، لا من عاملين لديه ولا من محازبين ولا من أفراد العائلة، حتى أولاده الذين اهتمّ سابقاً بـ«تعزيز الحس النقدي» عندهم باتوا الآن في موقع المتلقّي فقط.
إلا أن الأمر لا يقف عند هذا الحد، إذ إن جنبلاط يعيش حالة تصيب عادة المصابين بأمراض قاتلة، والذين يقتربون من عملية انتحار. إذ غالباً ما يلجأ هؤلاء إلى تنظيم مرحلة ما بعد موتهم، وخصوصاً عندما يكون هؤلاء في موقع المؤثر. وهو يريد أن يرسم كل شيء مسبقاً. تحديد مسبّق لمن هو مسؤول عن موته، وتنظيم مسبق لجنازته، وتحديد مسبق لإطار الانتقام الذي يريده من أنصاره، وفي هذا الإطار، فإن جنبلاط مصاب بفوبيا «آلة القتل السورية» وهو حاسم بأنه سيكون صريعاً على يد هذه الآلة، ولأنه يبدو فاشلاً في التوصل إلى حل يقيه هذا المصير، يلجأ إلى لعبة الثمن المدفوع مسبقاً، بأن يحاول القول لمن يفترضه قاتله، إنه سوف يجعله يدفع الثمن كذا وكذا وكذا، وهو في هذه الحالة يفترض أنه يمارس إرهاباً مقابل الإرهاب الذي يتعرّض له، آملاً أن يكون في ذلك ما يردع القاتل عن قتله. لكنه يشعر أكثر بأن الأمر ليس على هذا النحو. فيلجأ إلى الشعوذات التي تصاحب رسمه لأفكاره التي تخرج عنه لاحقاً على شكل مواقف وتصريحات.
تدور الشائعات من حوله. موكب مفترض للسفير الأميركي وصل إلى باب منزله. فوجئ هو وحرسه بالأمر، يبتعد الموكب بعد قليل، ويعيش جنبلاط هاجس الاختراق الكبير. تصله أنباء يحجبها عن بقية حراسه والمقربين، وتتعلق باكتشاف أحد كوادره «عميلاً للعدو». وهو الذي كان يفترض به إعداد الخطط لمواجهة «غزوة فارس». ثم يتحدث رجاله المنتشرون في ثياب رجال أمن رسميين، عن سيارات يختفي ركابها خلف زجاج قاتم تجول بالعشرات في القرى المحيطة بمقر إقامته. ثم يسأل عن عدد المرافقين الذين سبقوا وئام وهاب إلى مناسبة عزاء في إحدى قرى عاليه. ثم يطلب من مناصريه التثبت من هويات هؤلاء، ولما يكتشف أنهم من أبناء الطائفة الدرزية، يطلب البحث في أسباب سيرهم خلف وهّاب. كما ينتشر رجاله في بعض قرى إقليم الخروب، وينصبون كمائن في سيارات تقف خلف أشجار أو خلف جدران، أو ينقضّون في ساعات الفجر بدوريات على شبان من خارج المنطقة، ويهينون بعضهم لأنهم كانوا في ضيافة شباب من أنصار وهّاب. ثم يتولى رجاله نقل هؤلاء إلى مخافر قوى الأمن، ويملون على رؤساء هذه المخافر في بعقلين وكفرحيم وغيرهما ما يجب القيام به.
يتلقى جنبلاط برقية تهنئة بأن نعامة في قصره قد باضت أخيراً. ثم يدخل في معركة مع كلبه الذي غضب بعض الشيء لنقص في المونة، فيلجأ إلى عضّ من يجب عضّه. وبين هذه وتلك، يفيق جنبلاط في ساعات الليل متفقداً الكاميرات التي ثبّتها رجاله في كل الأمكنة من حول مقر إقامته، فيضحك لبعض الصور الخاصة التي تصله عن بيوت الجيران وحركة الناس في الشارع. وأكثر ما يشعره بالمتعة والنشوة قراءته تقارير التنصّت التي ترده دورياً من جهات يقال إنها غير معلومة.
في لعبة الموت نفسها، يشعر جنبلاط، كأي مجرم لوّثت يداه بالدماء، بأن هناك من سوف يعاقبه يوماً ما. فيجنّ جنونه لرؤية غيره أكثر هدوءاً. ممثل يحب أن يضحك له الجمهور أو أن يصفق له الحاضرون، ولأجل ذلك، لا بأس من استحضار كل ما يطلبه المشاهدون. فيقرأ في كليلة ودمنة ثم يكتب ما يعتقد أنه يصيب في الآخرين توتراً. تماماً كما فعل في ذكرى الرئيس رفيق الحريري الثانية، وكما فعل في بعقلين عشية الذكرى الثالثة. وفجأة يجد نفسه في خصومة عشائرية حتى الموت مع عائلات معتقلين سياسيين لدى حكومة فؤاد السنيورة، ولأن مشهد الركض فوق الجثث يسكنه، يبدأ بتلاوة الصلوات والتمنيات التي يقولها على شكل توقعات لعائلات هؤلاء الموقوفين، وماذا بيده ليفعل إن لم يعثر فريقه الأمني المحلي أو الإقليمي أو الدولي على قتلة الحريري الحقيقيين، وهل يقبل جنبلاط أصلاً بإماطة اللثام عن تفاصيل التحقيقات التي أجراها وتوصل إليها من يقول هو إنهم حلفاؤه؟
ولأن النقاش غير حاصل معه لا من المقربين ولا من الأصدقاء، فإنه مستمع جيد فقط لمن يلهمه هذه الأيام: إليوت أبرامز. وهل أفضل من هذا الرجل الذي يقوم أحياناً بدور الوسيط بين الله وجورج بوش، وصاحب الأفكار الافضل بين جمهور محبي الحياة، والذي يطرب له جنبلاط وهو يحدثه عن برامجه وبرامج رئيسه لإطاحة كل «رجال الموت». يغرق جنبلاط في كرسيّه وهو يستمع الى أبرامز يروي له ليلة السقوط المدوّي لبشار الأسد، وفرار أحمدي نجاد من مقر الرئاسة في طهران، واختفاء السيد حسن نصر الله عن وجه الأرض، وانتشار الحانات في طهران وغزة ليفتح له سوقاً أوسع لنبيذه الطيّب، ثم يقف جنبلاط نافشاً شعره يرقص في غرفته الضيقة وهو يصلي لربه الخاص به، أن ينتقم له من كل من يثير فيه غيرة وحفيظة وتوتراً، وإذا ما طلب إليه إبراز لائحة بهؤلاء، فسوف يكون أمام الراغبين في تلبية رغبات الزعيم المفدى مهمة تحتاج الى دهور طويلة والى أنهر من الدماء. وفي آخر مرة، أقسم له أبرامز إن الأمور لن تكون سهلة أمام خصومنا، وإذا لم تكن تثق بما أقول فما عليك إلا الانتظار أسابيع قليلة أو أربعة أشهر حداً أقصى، وقبل انقضاء الربيع المقبل سوف تشهد على أنني أقول لك ما سوف يحصل، وعليك أن تسأل الأصدقاء المشتركين في الخليج العربي لتتأكد من أننا لن نترك سوريا وإيران ومن معهما في لبنان وفلسطين.
لكن أن يترك جنبلاط المشهد على خلاف محصور بسوريا، فهو أمر لا يفيد في رسم المشهد المأمول، ما يعني أن عليه البحث في صورة إضافية للقاتل. وهكذا يجد نفسه في قلب لعبة تحريض مسبقة عالية السقف ضد حزب الله. يتّهمه ضمناً، ثم تلميحاً ثم تصريحاً بالوقوف وراء عمليات القتل. ولا فرق عنده إن أطلق اسماً على هذا أو ذاك من الذين يريدهم أن يكونوا في كادر صورة المتهمين بقتله، قاصداً مرة جديدة ردعهم أو دفعهم لدرع من يفترض هو جازماً أنهم قتلته المفترضون. وعندما لا ينجح في إثارة الآخرين، لا يجد مانعاً من مد اللسان واليد والعين الى ما يغضب الآخرين على اختلافهم!
قبل يومين، كتب أبرز المعلقين الأمنيين في «هآرتس» وأكثرهم دقة بحسب تسلسل الأحداث أمير أورن عن مشكلة يواجهها دروز من عرب الـ1948 مع الشرطة الاسرائيلية، وفي السياق يتذكر أحوال دروز لبنان والحساسية التي يبرزونها في وجه من يقيم الى جانبهم ويقول «مرت سنوات، وفي صيف 1982 التقى وزير الدفاع أرئيل شارون مع الرئيس اللبناني الراحل بشير الجميّل. وأعلن رئيس الكتائب في حينه أنه قريب من سحق زعيم الدروز في لبنان، خصمه وليد جنبلاط. وكان لشارون والجنتلمان، الذي يكنّ العداء لسوريا لقتلها أباه، أصدقاء مشتركون، بينهم رئيس الموساد اليوم مئير داغان؛ ولكن الجميّل تبجح بأن المجموعة الصاعدة في الطائفة الدرزية هي حليفته، عائلة يزبك. وطالب قائلاً: «أخرجوا دروزكم». فاستسلم شارون ووعد بأن يبعد ضباط الجيش الاسرائيلي من أصل درزي عن مناطق الاحتكاك بين المسيحيين والدروز».
الأهم في هذه الاستعادة الإسرائيلية لحوار منذ 26 عاماً هي الإشارة الى داغان. هل تعرفون من هو هذا الرجل. إنه الرئيس الحالي لجهاز «الموساد» الإسرائيلي، الذي تلقى ترقية أخيراً لأنه حقق لإسرائيل إنجازاً كبيراً هو: تصفية عماد مغنية. نفسه عماد مغنية الذي قال عنه جنبلاط إنه ليس شهيداً، وإنه إرهابي، واتهمه بأنه يقف وراء عمليات الاغتيال في لبنان... تذكروا هذا الكلام جيداً!