نقولا ناصيف
بعدما أخفقت المبادرة العربية للحل اللبناني أو تكاد، ساد انطباع احتمال طرح مبادرات بديلة، أقربها فرنسية ما دام وزير الخارجية برنار كوشنير قد عمل على امتداد شهرين، ما بين أيلول وكانون الأول، على إجراء انتخابات الرئاسة اللبنانية وتجنيبها الفراغ الدستوري. ساد كذلك انطباع مماثل عن تفكيك عناصر المبادرة العربية بشطب إحدى قواعدها الرئيسية، وهي انتخاب قائد الجيش العماد ميشال سليمان رئيساً، وفتح باب التكهّن بمرشحين آخرين بدلاء. أقلقت هذه الحملات الدبلوماسية الفرنسية التي سارعت إلى نفيها أكثر من مرة بأن قلّصت الفوارق القائمة بين مبادرتها ومبادرة الجامعة العربية. وفي واقع الأمر، ما يصحّ على الدبلوماسية الأوروبية، يصحّ كذلك على موقف دبلوماسية الاتحاد الأوروبي، إذ هو لا يرى، حتى إشعار آخر، خياراً سوى المبادرة العربية.
في ظل هذا الجزم، يشير مسؤول دبلوماسي أوروبي رفيع إلى المعطيات الآتية:
1 ـ لا بديل من المبادرة العربية التي لا تعدو كونها استكمالاً للمبادرة الفرنسية. إلا أنها أكثر تحديداً في الآلية التي رسمتها لحل الأزمة اللبنانية، أضف أن عناصرها الرئيسية مستمدة من تلك التي لحظتها المبادرة الفرنسية بتشديدها على انتخاب قائد الجيش رئيساً للجمهورية وتأليف حكومة وحدة وطنية ووضع قانون عادل للانتخاب. مغزى ذلك أن باريس ليست في صدد العودة إلى واجهة الوضع اللبناني بعدما أخلت المكان للجامعة العربية التي تقود الآن مبادرتها. وبعدما فشلت الجهود الفرنسية عندما كانت تتصدّر الحدث، فإن دعم المبادرة العربية هو محور أي موقف أوروبي أو دولي من لبنان. ولا يقلل ذلك من الصعاب التي تواجهها، وقد اعترف بها الأمين العام للجامعة العربية عمرو موسى إبان مهمته في بيروت. لا مبادرة فرنسية، أو إيطالية، أو أوروبية. لا مبادرة في الجيب، أو أخرى مخبأة تنتظر إخفاق المساعي العربية، بل تأمل باريس في توصّل وزراء الخارجية العرب في اجتماعهم يوم الأحد إلى نتائج إيجابية تتجاوز ما لم يتمكن موسى من تذليله في زيارتيه إلى بيروت ودمشق.
2 ـ لا تغيير في موقف باريس من ترشيح قائد الجيش لرئاسة الجمهورية. على أن هذا التأييد لا ينبثق من كونه قائداً للجيش، ولا من مفاضلة على سواه من المرشحين. بل لأنه المرشح الوحيد الذي يحظى بإجماع قوى 14 آذار والموالاة.
ولم يقل أي منهما، حتى الآن على الأقل، إنه مع مرشح آخر، أو إنه تخلى عن دعم الإجماع عليه. وموقف الإجماع على رئيس توافقي، قبل ترشيح قائد الجيش، اتخذته باريس باكراً عند بدء المهلة الدستورية وظلّت متمسكة به، ولاحظت في نهاية تشرين الثاني الفائت أن قائد الجيش أصبح الأوفر حظاً في تحقيق الإجماع عليه، فأيدته وساقته في مبادرة كوشنير. ثم دعمته المبادرة العربية.
بهذا الموقف، يقول الدبلوماسي الأوروبي الرفيع، تتميّز فرنسا عن الولايات المتحدة التي لم تجارِ بدايةً انتخاب رئيس توافقي، وشجعت الغالبية على انتخاب يأخذ بنصاب النصف الزائد واحداً، ساعية في الوقت نفسه إلى وضع العصيّ في الدواليب، فاصطدمت المبادرة الفرنسية بعراقيل. وسرعان ما صرفت واشنطن النظر عن تلك المواقف وانضمت إلى المطالبين بانتخاب رئيس توافقي للبنان. إلا أن المقصود بالتشديد على استمرار تأييد قائد الجيش هو أن ترشيحه للرئاسة جزء لا يتجزأ من المبادرة العربية، وأول بنودها. وتبعاً لذلك، يعتقد أن المطلوب الآن انتخابه بوضع الآلية المناسية لذلك.
بل يذهب إلى القول، في معرض سؤاله عما يشاع عن احتمال طرح المعارضة اسماً آخر، إن عليها أن تطرح على الغالبية النيابية مرشحاً بديلاً من قائد الجيش إذا كان لديها هذا المرشح كي تتوافق وإياها عليه. الأمر الذي يحمله على التساؤل، بدوره، عن مبرّرات تعثّر وضع المبادرة العربية موضع التنفيذ: هل تكمن المشكلة في انتخاب قائد الجيش رئيساً، أم في تقاسم مقاعد الحكومة المقبلة؟
3 ـ تنظر باريس، واجهة الموقف الأوروبي من الوضع اللبناني، إلى المبادرة العربية على أنه لا غموض ولا التباس في مضمونها، وبنودها لا تحتاج إلى تفسير. تالياً تجد الدبلوماسية الأوروبية، بحسب المسؤول الرفيع، في الشرح الذي حدّده موسى في بيروت عن تطبيق البند الثاني منها التفسير الصحيح والواقعي. فهو، وحده المعني ـ يقول ـ المسؤول عن تفسير المبادرة العربية.
4 ـ لا تزال سوريا تمتنع عن قول ما تريد من لبنان: هل تريد الهيمنة ووضع اليد، أم الاعتراف لها بمصالحها السياسية فيه، أم أنها تريد حكومة غير معادية لها؟ وفي واقع الأمر يبدو الفرق كبيراً بين كل من تلك التقديرات التي تجعل باريس قلقة من عدم تجاوب دمشق مع المبادرة العربية. لكن الموقف الفعلي لباريس حالياً هو أنه لا اتصالات مباشرة بينها وبين سوريا، من غير أن يمنع ذلك كون الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي أو الخارجية الفرنسية يتلقيان من حين إلى آخر من نظرائهما رسائل غير مباشرة عن إمكان عودة الحوار الفرنسي ـ السوري. الحوار عن لبنان مقطوع بين الدولتين، والعلاقات الدبلوماسية بينهما تسلك طريقها على النحو التقليدي.
في كل حال، لا يبرّئ المسؤول الدبلوماسي الأوروبي الرفيع التصلّب السوري من تهمة عرقلة تنفيذ المبادرة العربية، ومن سعي دمشق إلى تجاوز المحكمة الدولية في اغتيال الرئيس رفيق الحريري. لكن الجواب البديهي عنده أن المحكمة الدولية لم تعد بين أيدي اللبنانيين وأصبحت مسؤولية دولية. إلا أنها بالتأكيد، من وجهة النظر الفرنسية، تشكّل، ضمناً، جزءاً أساسياً من المشكلة التي تحول دون إرساء الحل اللبناني.