حسام كنفاني
ما كان للثورة الفلسطينية أن تذكر في التاريخ من دون أن يكون اسم جورج حبش في مقدمة قادتها على مدى أكثر من 50 عاماً من النضال، كانت محطة انطلاقته من اللدّ مروراً بعمّان ودمشق وبيروت، ليختتم مسيرته في عمان، حيث وافته المنية أول من أمس

«حكيم الثورة وضميرها»، «القائد القومي»، بعض التسميات التي كانت تعرّف بجورج حبش، الذي كرّس حياته طبيباً ومقاتلاً وسياسياً لأجل القضية الفلسطينية منذ ما قبل نكبة عام 1948، حين قطع دراسته للطب في الجامعة الأميركية في بيروت التي التحق بها عام 1944، ليعود إلى مدينته اللد لمواجهة العصابات الصهيونية.
عاش حبش، الذي ولد عام 1925، تفاصيل حصار العصابات الصهيونية لمدينته، الذي أدى إلى استشهاد شقيقته واضطرار العائلة إلى دفنها في حديقة المنزل الخلفية، لعدم قدرتهم على مغادرة المنزل. كان لقرار التقسيم أثر كبير في نفس حبش، الذي كان في إطار وعيه الأولي على حركة القومية العربية، فعلق عليه بالقول «كيف لهذه الأمة الكبيرة أن تهزمها عصابات صهيونية».
إلا أن الهزيمة التي استغربها الحكيم وقعت بالفعل، ما اضطره وعائلته إلى الدخول في ركب اللجوء، فتنقّلوا بين يافا ورام الله وعمّان، التي عاد منها حبش إلى بيروت لإكمال دراسة الطب، فتخرج عام 1951.
وفي 1952 عمل على تأسيس «حركة القوميين العرب» مع رفيق دربه وديع حدّاد، وكان لها دور في نشوء حركات أخرى في الوطن العربي. وأدّى ورفاقه دوراً قيادياً في التظاهرات الطلابية التي عمت لبنان في تلك الفترة تأييداً لموقف حكومة مصطفى النحاس زعيم حزب «الوفد»، التي ألغت المعاهدة المصرية ــــــ البريطانية.
ثم تابع حبش النشاط السياسي في الأردن عام 1952، ومارس مهنة الطب هناك مع الدكتور وديع حداد، وأقاما عيادة وسط عمان وقدما علاجاً مجانياً للطبقة المسحوقة من أبناء المخيمات. وكانت العيادة مركزاً للتعبئة والتوعية السياسية ونشر أفكار حركة القوميين العرب، إلا أنهما تعرضا للملاحقة، مما اضطرهما إلى العمل السري والاختفاء لمدة عامين في الأردن، وبعدها انتقل إلى سوريا ليمارس نشاطه السياسي والجماهيري في دمشق.
بعد الانفصال بين سوريا ومصر في عام 1961، تعرّض حبش للملاحقة من النظام في سوريا بسبب تأييده لمواقف الزعيم المصري الراحل جمال عبد الناصر، ما اضطره إلى العودة للعمل السرّي، ثم الانتقال إلى بيروت.
بعد نكسة عام 1967، وانحسار الفكر القومي العربي أسّس حبش مع مصطفى الزبري المعروف باسم «أبو علي مصطفى» «الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين»، التي تبنّت الفكر الماركسي. اعتقل عام 1968 في سوريا لمدة عام، ثم نفذت بعدها عملية اختطاف لتهريبه من السجن خطط لها ونفذها الدكتور وديع حداد. وعندما أصبح خارج السجن عام 1969 وجد نفسه أمام انشقاق سياسي تنظيمي قام به نايف حواتمة.
انتقل إلى الأردن سراً عام 1969، حيث كانت مرحلة المقاومة الفلسطينية في الأردن، التي شهدت الكثير من المصادمات مع الجيش الأردني أدت إلى معارك ضارية في أيلول عام 1970 وخروج المقاومة الفلسطينية من عمان إلى أحراش جرش.
كان حبش بطل العمل الثوري في الأردن، إضافة إلى التيارات اليسارية الأخرى على الساحة الفلسطينية. إذ تخصصت الجبهة في عمليات خطف الطائرات، التي كان أبرزها عام 1970، حين خطفت خمس طائرات مدنية غربية أنزلتها في «مطار الثورة» في الأردن قبل تفجيرها من دون ركابها لتسليط الضوء على القضية الفلسطينية.
عمليات الخطف استفزت النظام الأردني، الذي كانت القوى اليسارية قد وضعت إطاحته نصب أعينها. ويروى عن قيام الجبهة بمحاولتي اغتيال للملك حسين، الأولى عبر كمين في منطقة صويلح، والثانية في وسط عمّان حيث قام قنّاص كان مختبئاً على مئذنة المسجد الحسيني بإطلاق النار على سيارة الملك واستقرت إحدى الرصاصات في ظهر زيد الرفاعي.
بعد أحداث أيلول الأسود انتقل حبش إلى بيروت. وفي عام 1972 تعرض حبش لمحاولة اختطاف، حيث قامت إسرائيل بخطف طائرة ميدل إيست اللبنانية التي كان يفترض وجود الحكيم على متنها، لكنه نجا منها بأعجوبة نتيجة لإجراء أمني احترازي اتخذ في اللحظات الأخيرة قبل إقلاع الطائرة.
ويروي أحد مساعدي حداد عن الحادثة بالقول إنه «في أحد الأيام، قرر المكتب السياسي إرسال وفد إلى العراق سراً للقاء المسؤولين هناك، بناءً على دعوة السلطة العراقية آنذاك. ولم يكن يعلم بأمر هذه الزيارة سوى ستة أعضاء بينهم حداد. وقبل ساعات قليلة من انطلاق الوفد سمع حداد عتباً من أحد أعضاء المكتب السياسي، عن سبب عدم إخباره بالزيارة. ولما سأله عن مصدر معلوماته، قال إن زوجته أخبرته أن زوجة عضو آخر من ضمن الوفد أخبرتها بذلك. عندئذ جنّ جنون الدكتور وقال: عرفوا النسوان يعني عرفوا الموساد. وهرع إلى منطقة برج البراجنة، حيث كان الحكيم يتأهب للسفر ومنعه بالقوة من الذهاب إلى المطار». ويضيف مساعد حداد إن «المفاجأة كانت أن الطائرة قد تعرضت لقرصنة من جانب عملاء الموساد فعلاً، وأجبروها على الهبوط في صحراء الأردن، بيد أن خيبة أملهم بدت حين لم يجدوا حبش على متن الطائرة».
في العام نفسه، برز الخلاف بينه وبين رفيق دربه وديع حداد، بعد قرار الجبهة وقف عمليات خطف الطائرات، وهو ما رفضه حداد، ما أدى إلى تجميد عضويته في الجبهة الشعبية إلى حين استشهاده عام 1978.
جمّد حبش عضوية الجبهة في منظمة التحرير الفلسطينية بعد ما سمي «البرنامج المرحلي» أو برنامج النقاط العشر، الذي بدأ يتحدث عن إمكان القبول بالقرارات الدولية والاعتراف بإسرائيل وإقامة دولة فلسطينية على الأراضي المحتلة عام 1967. غير أن تجميد العضوية لم يدم طويلاً، فشارك حبش في جلسة المجلس الوطني الشهيرة عام 1988 في الجزائر، حين أعلن الزعيم الفلسطيني ياسر عرفات استقلال الدولة الفلسطينية بعد اندلاع انتفاضة الأقصى.
شارك حبش في المعارك الضارية مع قوات الاحتلال التي اجتاحت بيروت عام 1982. ويروي الرئيس الجزائري السابق أحمد بن بله أن حبش كان الهدف الأساس لهذه العملية. إلا أنه بقي صامداً في بيروت وخرج مع المقاتلين الفلسطينيين، واختار دمشق مقرّاً جديداً له وللجبهة الشعبية، على عكس عرفات الذي توجّه إلى تونس، لإيمانه العميق باستمرار النضال من إحدى بلدان الطوق مهما كانت الصعوبات.
عام 1992 توجه إلى فرنسا للعلاج بعد موافقة الحكومة الفرنسية، لكن سرعان ما تحولت زيارة العلاج إلى قضية سياسية كبيرة. فقد احتجزته القوات الخاصة بمكافحة الإرهاب تحت ضغط اللوبي الصهيوني، حيث احتشد الآلاف من اليهود في ساحة المستشفى. وطلبت إسرائيل من فرنسا تسليمها إياه، بينما أرادت الحكومة الفرنسية تحويله للقضاء بتهمة الإرهاب. إلا أن ضغوطاً دولية وعربية، وخصوصاً من الجزائر، ساهمت في إطلاقه، إذ أرسلت الجزائر طائرة رئاسية إلى فرنسا من أجل تأمين عودته وضمان سلامته.
عام 2000 قدم استقالته من منصب الأمين العام للجبهة في المؤتمر السادس، مفسحاً الطريق أمام تولّي نائبه أبو علي مصطفى الأمانة العامة للجبهة. إلا أنه بقي على تواصل دائم مع الهيئات القيادية للجبهة ومع كل الفصائل الوطنية والمؤسسات والفاعليات الوطنية الفلسطينية والعربية، الرسمية منها والشعبية.
بعد استقالته حدّد حبش لنفسه ثلاث مهمات أساسية، فانكبّ على كتابة تاريخ حركة القوميين العرب والجبهة الشعبية وتجربته النضالية. وعمل على تأسيس مركز للدراسات يعنى بقضايا النضال العربي، وفي مقدمها الصراع العربي ــــ الصهيوني. والعمل من أجل إقامة نواة جبهة قومية هدفها حشد القوى القومية العربية من أجل التصدي لمسؤولياتها وتوحيد جهودها في هذه الظروف، وفي مقدم مهماتها في هذه المرحلة مواجهة عملية التطبيع مع الكيان الصهيوني.
كان معارضاً شرساً لاتفاقات أوسلو التي وقعها الزعيم الفلسطيني ياسر عرفات مع إسرائيل. وأثناء نقاش الاتفاق في منظمة التحرير، قال عرفات «إن هذا الاتفاق هو الممكن»، فرد عليه حبش «أن الثورة الفلسطينية قامت لتحقق المستحيل لا الممكن». ووصف الدولة الفلسطينية التي كان سيعلنها عرفات بأنها «لا يمكن إلا أن تكون كاريكاتوراً لأن السلطة الفلسطينية قبلت بالعمل على تقديم التنازلات تلو التنازلات».
كان حبش يعرّف عن نفسه بالقول: «أنا ماركسي، يساري الثقافة، والتراث الإسلامي جزء أصيل من بنيتي الفكرية والنفسية، معنيّ بالإسلام بقدر أي حركة سياسية إسلامية كما أن القومية العربية مكوّن أصيل من مكوناتي». ويتابع «إنني في حال انسجام مع قوميتي العربية ومسيحيتي وثقافتي الإسلامية وماركسيتي التقدمية».



وصيته الأخيرة: تمسّكوا بالمقاومة واستعيدوا الوحدة
قبل دقائق من وفاته في أحد مستشفيات عمان مساء السبت الماضي أعرب جورج حبش عن قلقه إزاء الفرقة بين أبناء الشعب لفلسطيني وحصار إسرائيل لقطاع غزة، بحسب ما ذكر مساعدون وأصدقاء له أمس.
وصرح عضو المكتب السياسي للجبهة وممثلها في الأردن سهيل خوري بالقول: «كان هاجسه الرئيسي حتى في المستشفى هو كيفية استعادة الوحدة الفلسطينية وفتح حوار بين منظمتي فتح وحماس». وأوضح أن حبش وقف على مسافة متساوية من كلا الفصيلين المتنازعين، لكنه كان من أشد المتحمسين للحوار بينهما انطلاقاً من إيمانه بأن الشعب الفلسطيني «سيكون الخاسر الوحيد» في هذا النزاع.
وقال خوري: «ظل الزعيم حتى قبل وفاته بساعات قليلة يسألنا عن التطورات في غزة ومعاناة الشعب الفلسطيني هناك نتيجة الحصار الذي تفرضه إسرائيل». وأضاف: «كان مؤيداً قوياً لحق اللاجئين الفلسطينيين في العودة، وكان يتحرّق شوقاً لليوم الذي يستطيع فيه أن يرى منزل أسرته في اللد».
وأشار سعيد دياب، وهو صديق مقرب من الزعيم الراحل، الى أن حبش «غضب بشدة» من تصريحات الرئيس الأميركي جورج بوش أثناء جولته الأخيرة في الشرق الأوسط، التي استبعد خلالها ضمناً عودة اللاجئين الفلسطينيين إلى ديارهم تطبيقا لقرار الجمعية العامة للأمم المتحدة رقم 194 لسنة 1948. وقال إن «حبش كان ضد المفاوضات الجارية حالياً بين السلطة الفلسطينية وإسرائيل، وكان يعتقد بأن مثل هذه المحادثات مضيعة للوقت وبلا فائدة في ظل رغبة إسرائيل في التوسع والاحتلال».
وحثّ حبش وهو يُحتضر رفاقه على «التمسك بالمقاومة وبأهداف الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين وأهمها تحرير كامل التراب الفلسطيني».
وكان الراحل يرى، في أواخر سنوات حياته، أن الحل الوحيد للصراع الفلسطيني الإسرائيلي في قيام دولة علمانية يعيش فيها اليهود والفلسطينيون معاً.
وفي وقت متزامن تقريباً، صدرت في باريس مذكّراته تحت عنون «الثوريون لا يموتون».
ويقول حبش في الكتاب الذي ظهر على شكل محاورات مع الصحافي الفرنسي جورج مالبرونو «بعد تفكير طويل، توصلت إلى نتيجة أن قيام دولة ديموقراطية وعلمانية هو الحل الوحيد للنزاع بيننا وبين الإسرائيليين، دولة يعيش فيها معاً اليهود والفلسطينيون على قدم المساواة حيث يكون للجميع الحقوق والواجبات نفسها». ومع إقراره بـ «رومانسية» هذا «المشروع»، غير أنه رأى أنه «لن يكون هناك لا سلام ولا تعايش أو انسجام بين اليهود والعرب في فلسطين إذا استُبعد مثل هذا الحل».
وأبدى حبش موقفاً حازماً إزاء المسؤولين الفلسطينيين، فاتهم الرئيس محمود عباس بارتكاب «أخطاء (...) ستسبّب القضاء على القضية الفلسطينية». وأنحى باللائمة على عباس لتقديمه التنازلات تلو التنازلات للإسرائيليين الذين لم يعطوه شيئاً في المقابل. ورأى أن أبو مازن، مهندس اتفاقات أوسلو، «يستهين بالوحدة الفلسطينية، ويعتمد على الولايات المتحدة ومصر وإسرائيل للبقاء في منصبه».
ولم يوفّر حبش الزعيم التاريخي الفلسطيني ياسر عرفات الذي توفي في 2004، فكان ينتقد سلطته الفردية. ووصف حبش عرفات الذي كانت تربطه به علاقة أخوّة وعداوة بأنه اختصاصي في «حياكة الألاعيب والدسائس، ومستعد لفعل أي شيء لإبعاد منافسيه».
وكان حبش يروي نكتة عن عرفات تقول إنه عندما كان يؤدّي فريضة الحج أسرّ عرفات لصديق له إنه لا يريد رجم الشيطان فقد نحتاج إليه يوماً». لكن عرفات «لم يكن خائناً للقضية»، كما يقول حبش.
ويكشف حبش في مذكراته «خفايا» الثورة الفلسطينية التي كرّس لها حياته، وكيف أن ليبيا كانت المموّل الرئيسي للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، فيما كانت كوريا الشمالية ومصر في عهد عبد الناصر تزوّدانها بالأسلحة.
(أ ف ب، د ب أ)
«الشعبيّة» تشيّع قائدها في الأردن اليوم وحداد في فلسطين ومخيّمات الشتات

أعلن متحدث باسم الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين في عمّان أمس أنه سيتم اليوم الاثنين دفن مؤسس الجبهة الدكتور جورج حبش في العاصمة الأردنية.
وتوفي حبش مساء السبت عن 80 عاماً في أحد مستشفيات عمان بعد أيام على إجراء عملية جراحية له في القلب. واحتشد العشرات في المستشفى لتقديم العزاء لزوجته هيلدا وابنتيه. وقالت زوجته إن عائلته ستحمل «راية حبش والأمة العربية التي كان يعتز بها»، مشيرة إلى أن حبش «كان يؤمن دائماً بأن فلسطين ستتحرر».
وقال ممثل الجبهة الشعبية في الأردن سهيل خوري: «تقرر أن يدفن الحكيم في الأردن بناءً على رغبة زوجته وابنتيه، وستقام الصلاة على روحه في كنيسة الروم الأرثوذوكس في عمان ثم سيشيّع إلى المقبرة المسيحية في سحاب (شرق)».
وأوضح أن عدداً كبيراً من القيادات الفلسطينية وشخصيات من سوريا ولبنان وأراضي الـ 48 ستشارك في الجنازة. وكان الرئيس محمود عباس قد نعى حبش، وأعلن الحداد لمدة ثلاثة أيام وتنكيس الأعلام. كما نعت مختلف التنظيمات الفلسطينية حبش الذي يقيم في العاصمة الأردنية منذ أكثر من عشر سنوات. وفي لبنان أعلنت ممثلية منظمة التحرير الفلسطينية تقبّلها التعازي بالراحل اليوم في مقر الممثلية (بيروت ــ الجناح/ خلف أوتيل الماريوت) من الساعة العاشرة صباحاً حتى الواحدة ظهراً، ومن الخامسة عصراً حتى الثامنة مساءً.
وفي مخيمات سوريا ولبنان، أقامت الجبهة الشعبية مجالس عزاء، كما نظمت شبيبة الجبهة الشعبية واتحاد الشباب الديموقراطي اللبناني مساء أمس في مخيم شاتيلا اعتصاماً تخللته إضاءة شموع «تجديداً ووفاءً وإيماناً بالثورة وبالنهج الذي أطلقه جورج حبش في مواجهة المحتل الاستعماري».



سمير القنطار *

لن يبقى في الوادي غير حجارته

رفيق جورج... كم كان وقع الخبر ثقيلاً هنا في هداريم، حيث لخبر الموت طعم آخر.
كم «حكيم» لنا حتى ترحل أيها الحبيب؟ من سيصلح ذات البين في غيابك؟ وأنت القلق دائماً على مسار الوحدة الوطنية الفلسطينية التي ما شهدت انحرافاً ولا عبثاً وتقسيماً مثلما تشهده اليوم.
من سيكون حاضراً مع آلامنا؟ وأنت الذي حملت راية الدفاع عن الأسيرات والأسرى وحفظت جيداً «شيفرة» فك الأصفاد التي كتبها سجين على حائط أقبية المخابرات الأردنية في سجن العبدلي.
هل أخبرك عن أحمد؟ هذا الذي تسلّم الأمانة من الشهيد أبو علي مصطفى. أحمد الذي التحق بنا في سجن الصهيونية بعدما اقتادته أيدي الخيانة من سجن الإمبريالية في أريحا.
هل أخبرك عن عبد الرحيم؟ هذا الذي عانقنا قبل أشهر عائداً إلى السجن الكبير في رام الله، مصرّاً على أن نحفظ له سريره في هداريم لأنه لن يطيل الغيبة!
هي القصة نفسها يا جورج نعيد قراءتها ونحفظها عن ظهر قلب. قصة «الثورة التي قامت لتحقق المستحيل لا الممكن».
من يبحث عن المستحيل اليوم يا جورج؟
اليوم أفضل الممكن أن يهلّلوا لمجرم الحرب بوش، أن ينتشوا فرحاً لرقصة السيف المقزّزة في البحرين، لخيمة المضافة المذلّة في الإمارات، لوسام الشرف المفقود في السعودية.
اليوم أفضل الممكن أن نكسر جدار الجوع في رفح. أن نفرح للحصار بدل أن نحزن. حصار غزة الذي رغم بشاعته وقسوته وعنصريته وجبانته كان الترياق الذي أوقف سم التقاتل الداخلي والشتم الذي لا يتوقف عبر الفضائيات، وأعاد الأمل بجمع الشمل ولقاء الإخوة في السلاح والأعداء في تقاسم سراب السلطة.
جورج ليكن غيابك محطّة لحماية كل الثوابت التي أفنيت أجمل سنوات عمرك من أجلها. فلسطين الدولة الحاضنة لكل أبنائها في الوطن والشتات وعاصمتها القدس عروس المدائن وقبلة الأحرار. المقاومة خط ونهج ومسيرة كفاح لكل الثوار في فلسطين ولبنان والعراق وعلى امتداد العالم. التكاتف والتلاحم والصدق والوفاء والشجاعة في مواجهة قوى الأعداء، وقوى الإمبريالية العالمية، وقوى الاستسلام.
سلاماً لك ولكل الشهداء...
أنت قلت «الثوريون لا يموتون». نعم، أنت على حق. الثوريون يحتلون كل الأمكنة في أزقة المخيمات، في معسكرات التدريب، في أقبية التعذيب، يحيون هناك في الوادي الذي لن يبقى فيه غير حجارته.
جورج... الآن نطفئ كل الشموع ونستودعك. سنبكي لأن بسمتك الدافئة لن تستقبلنا يوم حريتنا.

* نقلها محاميه بعد زيارته في معتقل هداريم في فلسطين المحتلة




مروان عبد العال *

تمرّد بالرحيل

لمَ رحلت الآن يا حكيم؟ كي لا يبقى لفلسطين حكيمها؟ وأنت المتمرد الأول على صليب التشرد... دائماً تشع في اللحظة السوداء وميضاً من بريق الأمل، نحن نعتب ونسأل لأننا من جيل تكوّن في مختبر روحك وفكرك وشخصيتك، حملها زاداً لطريق طويل دوماً محفوف بخطر الضياع ورحيل الأحلام.
لمَ رحلت الآن؟ هل انقطع في طيات القلب الحبيب وتر الانتظار؟ أما عدت تقوى العيش على قيد الشوق، وأنت من علّمنا لغة الثورة وأبجديتها؟ هل لأن هناك من أنكر عليك البواكير الأولى؟ ألست يا حكيم، باعتراف الأعداء، أول من أدخل مصطلح «العنف الثوري المنظم» إلى قاموس الشرق الأوسط. كما قال غسان كنفاني يوماً: «الغزلان تحب أن تموت عند أهلها، أما النسور فلا يهمها أين تموت».
لمَ رحلت الآن؟ ألم تغرس فينا إرادة البقاء والاستمرار والقتال، وأنت على مفترق الأغوار وفي قلب شاتيلا وعيادة البقعة ومركز الغد؟
كم مرة التقينا وكانت بيروت ثالثنا، وكلما نلتقي تستعيد شباب الجامعة الأميركية، والمرة الأخيرة كي تسألني دامعاً عن مخيم نهر البارد.
هل ترحل يا حكيم لأنك أيقنت بعقلك المنهجي أن الحلم بأمان وهو الذي استمررت بحراسته من أول نبرة كلام حار حتى آخر رعفة قلب فيك، وأنت الذي صرخت في أول الطريق بقولك: «تستطيعون أن تدمروا بيوتنا لكنكم لا تستطيعون تدمير إرادة المقاومة فينا»؟ كم نحبك وأنت تطلب منا بإلحاح: «أيها الشباب، إن أردتم صناعة التاريخ، فكونوا جزءاً من كلٍّ منظَّم».
يوم أيقنت أن البناء الروحي اكتمل، سجلت سابقة أخلاقية وتنظيمية بأن ترحل من موقعك القيادي وتفسح الطريق وتطلب أن تكون مستشاراً لنا. صدقت بنموذجك الديموقراطي لنبلغك وعدنا «إن غاب المؤسس فلن تغيب المؤسسة التي صنعها»، تبتسم لتقول المثل الشعبي الفلسطيني: «مين خلّف ما مات».
يا سيد مقولة وحدة صراع بوصلة لحل التناقضات الداخلية وحفظ الوحدة. حين يدرك الجميع أن للسياسة معادلة لا يخترقها الحكيم، هو يعرف متى يختلف ومتى يتفق. وكيف لا يفسد الخلاف للود قضية، وإن التناقض الرئيسي مع عدو يستهدف الجميع، ويوم الانقسام بعد حرب 82 هتفت بأعلى صوتك: الاقتتال الداخلي حرام حرام.
في الزمن العقوق تتمرد بالرحيل. لقد صمّت الآذان عن النداء وأنكرت على الضمائر رفعتها، فقررت أن تعلن الرحيل. أكملت الرسالة ومضيت. لوّنت الحلم الذي صار يشبهك، فلسطيني ينزرع في الوطن، شهداء يلتحفون التراب، مفتاح الروح وصيتك المعلقة في كل مخيم، والحلم العروبي يشمخ في أعناق الأجيال، وأطياف الإنسانية تتوق الحرية.

* عضو المكتب السياسي للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين
مسيرات عفويّة ومجالس عزاء وبرقيّات تنعى «الثائر الذي لا يموت»

ليس وحده الموت، الذي عادة ما يستدرج مشاعر
التضامن، هو ما أعاد أمس ذاك الحضور القوي والمتميز لـ«الثائر الذي لا يموت» وأحد رواد النضال التحرري جورج حبش. فللرجل حكاية حب ووفاء في قلوب الكثيرين
انعكست الأزمة الخانقة التي يعانيها قطاع غزة، واستمرار الانقسام في الساحة الفلسطينية، على مشاعر الفلسطينيين الذين خرجوا في مسيرات عفوية حزناً على رحيل مؤسس حركة القوميين العرب والجبهة الشعبية لتحرير فلسطين الدكتور جورج حبش.
وشارك المئات من الفلسطينيين، يتقدمهم قادة وعناصر من الجبهة الشعبية، في مسيرات عفوية خيّم عليها الحزن، في غير منطقة من القطاع والضفة، وسط شعارات ممزوجة بالحزن على رحيل حبش، ودعوات لاستئناف الحوار الوطني، ورفع الحصار.
ونعت الجبهة الشعبية حبش ووصفته بـ«المناضل والقائد القومي العربي الكبير»، وعاهدت «شعبنا وقائدنا الكبير ورمز نضالنا، وملهم مسيرتنا على أن نواصل المسيرة والنضال على خطاه، وعلى نهجه، بعناد الثوريين وإرادة الأحرار حتى تحرير كامل التراب الوطني الفلسطيني».
كذلك نعت الحكومة المقالة، برئاسة إسماعيل هنية، وفصائل العمل الوطني والإسلامي في القطاع، حبش. ورأت حكومة هنية أن رحيل حبش «مصاب جلل»، وقالت في بيان نعي إنه «كان دوماً معول بناء وداعية صمود ومقاومة».
ونعت حركة «حماس» إلى الشعب الفلسطيني في الداخل والشتات والفصائل الوطنية والأمة العربية والإسلامية، حبش، مشيرة إلى أنه «قضى حياته بعيداً عن أرض الوطن، مدافعاً عن فلسطين، ورافضاً لكل محاولات التنازل عن الحقوق الوطنية للشعب الفلسطيني وقضيته».
وقال المتحدث باسم حركة «فتح» فهمي الزعارير إن «حركة «فتح» تفتقد وشعبنا العربي الفلسطيني وكل مناضلي وأحرار الأمة والعالم، هذا الرجل الكبير الذي مثّل على الدوام صمّام أمان في كل مراحل العمل الوطني».
وأعرب الدكتور أحمد بحر، رئيس المجلس التشريعي بالإنابة، عن بالغ عزائه بفقدان حبش، «بعد عمر مديد من النضال الشرس في الدفاع عن الحقوق الفلسطينية في مواجهة الاحتلال».
من جهتها، وصفت حركة الجهاد الإسلامي حبش بـ«القائد الوطني الكبير»، الذي رفض المواقف الأميركية الظالمة للشعب الفلسطيني وقضيته العادلة ». ورأت الجبهة الديموقراطية لتحرير فلسطين في رحيل حبش «خسارة لشعبنا وحركته الوطنية وعموم حركة التحرر العربية والعالمية». وقال حزب الشعب الفلسطيني في بيان نعي إن حبش «لعب دوراً مميزاً في الكفاح الوطني والطبقي ضد الاحتلال الإسرائيلي والإمبريالية العالمية، وعلى رأسها الولايات المتحدة».
وفي لبنان ذرفت المخيمات الفلسطينية دموعاً غزيرة على «الحكيم». ومنذ الصباح الباكر أقيمت ورش عمل لإنجاز احتفالات وداع تليق بالراحل، ورفعت الرايات السوداء حداداً إلى جانب صور حبش.
وتكريماً للقائد الراحل، فتحت قيادة الجبهة الشعبية مراكزها في بيروت وصيدا وصور أمام الوفود المعزية، وأمّت الوفود الفلسطينية واللبنانية وممثلي اللجان الشعبية والمؤسسات التربوية هذه المراكز حيث كان عدد من قادة الجبهة على رأس المستقبلين.
ووجه الرئيسان نبيه بري وفؤاد السنيورة برقيات تعزية إلى الرئيس الفلسطيني محمود عباس والأمين العام للجبهة الشعبية المناضل أحمد سعدات. ورأى رئيس كتلة المستقبل النيابية النائب سعد الحريري أن غياب حبش «يجب أن يكون حافزاً لمواجهة المخاطر الماثلة جرّاء الاعتداءات الإسرائيلية المستمرة».
وعاهد الحزب الشيوعي اللبناني «القائد الراحل وكل اليسار وقوى الديموقراطية في العالم العربي، على الاستمرار في الخط المقاوم للمشاريع العدائية التي تحاك لأمتنا».
كذلك صدرت مواقف وبرقيات تعزية عن كل من: الحزب السوري القومي الاجتماعي، الحزب التقدمي الاشتراكي، الأمانة العامة للمؤتمر القومي العربي، الحزب العربي الديموقراطي، النائب محمد قباني. كما غادر الأمين العام لمنظمة العمل الشيوعي محسن إبراهيم بيروت إلى عمان للمشاركة في التشييع.
(الأخبار)