شهدت الضاحية الجنوبية لبيروت وعدد من القرى الجنوبية والبقاعية مراسم تشييع خمسة شهداء من أصل ستة، هم الحصيلة النهائية لضحايا واحد من أبشع الأحداث الدموية التي شهدها لبنانفقدت المصطلحات أهميّتها أمس في الشياح. شهيد أو قتيل، النتيجة واحدة. «راح الغالي» تصرخ والدة الشهيد أحمد العجوز، «راح الغالي»، تردّد الأم المفجوعة عبارتها، علّ «الغالي» يسمع ويعود. لكنّ أحمد سلك رحلته الأخيرة مع رفيقه أحمد حمزي إلى مثواهما الأخير، «هناك حيث لا انقطاع للكهرباء والمياه تتدفّق بغزارة على شهداء الله» يقول مهدي محمّد، رفيق حمزي.
على وقع هتاف «لا إله إلا الله والشهيد حبيب الله» دخل الشهيدان مجمّع الإمام موسى الصدر في روضة الشهيدين ـــــ الشياح. لم يستطع المشيّعون ضبط النفس، كما طلب منهم المنظّمون فـ«الفاجعة أكبر من أن تحتمل، ستة شهداء، ستة شهداء والسنيورة ما زال في قصره». علت الهتافات المندّدة بالحكومة وبالجيش اللبناني، ثمّ ارتفعت أعلام حركة أمل، والأعلام العاشورائية، تحيةً للنعشين. يصرخ أحد الموجودين: «نموت بالعشرات على طرقات الوطن وأمام جيشنا ويريدون منّا ضبط النفس، هذا كثير علينا».
ضاق المجمّع بالحاضرين، نساء ينتحبن على شابين، «قدّموا حياتن تنعيش بكرامة، متلنا متل بقيّة اللبنانيين» تقول الحاجة فاطمة شعيب. شعيب لم تعرف الشهيدين، لكنّها أتت إلى التشييع عرفاناً بالجميل لمن «خاض المواجهة المعيشية عنّا جميعاً، نحن سكّان الضاحية». لا يشفي كلام شعيب غليل جارتها بشرى شرّي، فتقاطعها بصوت مرتفع: «أنا بدي إحكي، وبدي سبّ هالدولة وهالحكام، ولادنا دمّن أرخص من شهدا 14 آذار؟ نحنا يلي بدنا الحقيقة». تكمل حديثها منفعلة وشاتمة الحكومة.
الثالثة والنصف، انتهت الصلاة، حمل النعشان على أكتاف رفاقهما ونقلا إلى المدافن. علا الصراخ، والبكاء «راح أحمد، أن شالله يكونوا مبسوطين. ردّ عليي يا خيي يا نور عيوني، قلي شو بدِّك يا إختي، حكيني مرة بعد وروح»، لا تنفع كلمات التعزية في تهدئة شقيقة حمزي. تقترب من جثمان أخيها، تريد إلقاء نظرة أخيرة. يبعدها الحاضرون، فيزداد صراخها: «هيدا خيي، خيي إلي أنا، إنتو شو خصكن» وتنهار على الأرض.
يتناقل الحاضرون ما رأوه أمس، وكيف سقط حمزي أمام أعينهم وأعين الجيش. يروي علي شعيتو ما شاهده أمس: «كنّا نشعل الإطارات، فالكهرباء كانت مقطوعة لليوم الثالث، بدأ عددنا يزداد، تدخّلت لجنة الأمن في الحركة لتهدئة الأوضاع بالتنسيق مع الجيش». يأخذ شعيتو نفساً عميقاً، ويضيف: «كان أحمد حمزي ينسّق مع الجيش، وقتلوه». لكن من قتله؟ «إنهم قناصو عين الرمانة». الأمر محسوم عند «الشباب». يستعيدون لحظات الرعب التي عاشوها أمس مع سماعهم أنباء سقوط رفاقهم، «ولكننا لم نتراجع، نحن فقراء، يبدو أن في لبنان من لا يعرف ذلك. نحن فقراء، هل تسمعون يا حكام؟». يتدخّل أمن «الحركة»، فما يقوله الشباب لا يمثّل موقف حركة أمل.
لا يردع ذلك الشاب حسين خليل من تهديد «القتلة»: «كلّ دمعة أم سقطت على أحد أولادها الشهداء، سيدفعون ثمنها غالياً وغالياً جداً».
وتخلّلت التشييع كلمة لرئيس المكتب السياسي في حركة «أمل» جميل حايك، فتوجّه إلى الحاضرين قائلاً: «إنكم الأم الحقيقية للوحدة اللبنانية واستقرار لبنان وثباته، أم الجيش اللبناني؟». فعلت الصرخات المستنكرة. يبدو أنه صعب بعد ما حصل أمس إقناع الحاضرين بـ«حيادية الجيش».
ثمّ عاد حايك وتوجّه بالكلام إلى فريق الموالاة: «أنتم أيها الفريق الآخر من اعتدى على الجيش وتطاول عليه، بعض قادتكم أعدم الضباط وبعض قادتكم أقاموا معه الحروب، وبعض قادتكم حاول تهميش الجيش عبر موازنات ضعيفة كي تجعله يتسول الأمن ويستجديه».
وفي الشياح أيضاً شيّع حزب الله الشهيد محمود منصور الذي «استشهد إثر تعرضه لإطلاق نار أثناء قيامه بواجبه ضمن لجان الانضباط»، كما أكّد بيان الحزب. وبعد الصلاة نقل جثمان منصور إلى قريته حداثا في الجنوب، حيث كان في استقبال النعش أهالي بلدة حداثا وعدد من القرى المجاورة في أجواء من الحزن والغضب وتحت المطر الشديد، معبّرين عن سخطهم لما جرى مرددين هتافات تندد بالفاعلين وبقوى الأمر الواقع «الذين تراخوا وطالبوا بقمع الاعتصامات وأسهموا في قتل المعتصمين». وصلّى على جثمان الشهيد إمام البلدة الشيخ عبد الكريم كرنيب، وألقى كلمة حزب الله عضو المجلس السياسي المركزي في الحزب الشيخ خضر نور الدين الذي قال: «هل حساباتكم أن هناك مناطق راقية وأخرى غير راقية؟ لماذا إطلاق النار على العُزّل؟ نقول للجيش إننا نطالبه بأن يكون إلى جانب المواطنين، لا إلى جانب المأجورين الذين يبيعون الوطن».
كما عبّر أهالي بلدة ميس الجبل عن استنكارهم الشديد لمقتل ابن بلدتهم الشاب يوسف شقير، وقام العديد من الأهالي بحرق الدواليب وقطع الطريق العام على المارّة، لكن أعضاء المجلس البلدي لجأوا إلى إيقاف أعمالهم هذه. وأقفلت جميع المحالّ التجارية والمدارس حداداً، وذهب العديد من الأهالي إلى منطقة الشياح، حيث يسكن الشهيد، للقيام بواجب التعزية. هذا وسيشيع شقير عند الحادية عشرة من صباح اليوم.
وشيّعت مدينة النبطية والمؤسسات الصحية والإنسانية والاجتماعية والدفاع المدني، في موكب حاشد ومهيب، العنصر في الدفاع المدني، الشهيد علي حسن معتوق (45عاماً)، الذي قضى أثناء قيامه ليل الأحد ـــ الاثنين، بواجبه المهني، فيما كانت فرقة للدفاع المدني تحاول إخماد حريق إطارات أشعله محتجّون في بلدة كفرتبنيت. وذكرت مصادر أمنية أن معتوق قضى دهساً بسيارة الإطفاء التابعة للدفاع المدني.
وفي عدلون، تتكئ لينا نصر الدين، تلك الأم الصبية، والدة محمود حايك الذي قتل في اشتباكات مار مخايل على فاجعتها بالموت الغادر لابنها ابن السبعة عشر ربيعاً، وبدت تلك الوالدة كأنها لم تتكيف بعد مع فكرة رحيل ابنها «وين محمود وليش طول؟»، وبانتظار انتهاء «المكفنين» من تكفين ابنها، تحمل صورته، تقبلها وتضمها، وبلحظة ما ينفجر غضبها بعدما حرق الرحيل المفاجئ دمعتها، فتحجرت في مقلتيها غضباً يصب جامه على الرئيس السنيورة تصرخ: «الله يحرق قلبك متل ماحرقتلي قلبي على إبني والله يذوقك مرارة موت الإبن ويخطف إبنك متل ما سرقتللي إبني». وما يلفت عدم الانتماء الحزبي المباشر للفقيد، وما يعزز ذلك غياب الأعلام الحزبية مع استغراب وجود إكليلين من القرنفل الأبيض موقعين باسم «اليونيفيل» ليتبين أن الأب علي حايك يعمل موظفاً مدنياً في «اليونيفيل». يستعين الأب ببعض شباب بلدته ليتكئ عليهم قبل أن تخور قواه لحظة وداعه الأخير لجثمان ولده وقبلة على وجنتيه، وقد بدا جسد محمود أنه نخرته أكثر من رصاصة في الصدر والظهر، وعمل المسعفون على تكميم فمه بضمادات لوقف النزف وعدم إفساد الكفن.
وفي الهرمل اتشحت «مدينة الشهداء» بالسواد وسكنت الحركة في شوارعها المعتادة على الصخب والضوضاء لا يخرق سكونها الذي هبط عليها فجأة كالصاعقة إلا أصوات الشعارات المنطلقة من حناجر آلاف السائرين في موكب تشييع ابن المدينة المسعف مصطفى علي أمهز (دماء) إلى مثواه الأخير في مدافن العائلة الكائنة بالقرب من مقام النبي موسى. آلاف المشيعين خرجوا من منازلهم وساروا خلف النعش مرددين شعارات منددة بالعملاء والخونة. وتقدم المسيرة النائبان علي المقداد وجمال الطقش ومسؤول منطقة البقاع في حزب الله النائب السابق محمد ياغي الذي ألقى كلمة بعد الصلاة التي أمّها الشيخ نبيل أمهز فقال: «بالأمس لم يستطع العدو الصهيوني أن ينال من جسد مصطفى ومن روحه، بينما الذي نال منه هم هذه الطغمة السياسية الظالمة، طغمة السرايا الذين يتحملون مسؤولية ما حصل». تساءل: «لماذا إطلاق الرصاص على الرؤوس والصدور؟ الأمر معروف وواضح لدينا تماماً، هم في أماكن أخرى من هذا الوطن لا يقتربون أبداً من الذين كانوا يقطعون الطرقات قبل أيام وكانوا يحملون الأسلحة علناً ويطلقون الرصاص والقوى الأمنية تمشي وتسير إلى جانبهم، وهم يعلمون أننا في المقاومة الإسلامية وفي حزب الله لحمنا مرّ لا يستساغ أكله». ثم ووري الشهيد في الثرى وسط إطلاق نار احتجاجي كثيف، وغياب ملحوظ للقوى الأمنية والجيش اللبناني.
(شارك في التغطية: ليال حداد، كامل جابر
داني الأمين، خالد الغربي ورامي بليبل)