نقولا ناصيف
سواء انطوى كلام الرئيس المصري حسني مبارك على انتقاد مباشر ،أو مبطّن، لسوريا حيال عرقلة انتخابات الرئاسة اللبنانية وتمديد أمد الفراغ الدستوري، فقد كرّس في أبسط الأحوال اعتراف أكبر دولة عربية بالنفوذ السوري في لبنان، وفي انتخاب رئيسه، عندما حضّها على المساعدة على إجراء الاستحقاق الرئاسي، وتالياً انتخاب قائد الجيش العماد ميشال سليمان. وإذ يعكس موقف الرئيس المصري مؤشرات الجانب الآخر من التجاذب الإقليمي والدولي المحيط بانتخابات الرئاسة، وهو الخلاف مع سوريا على دورها في لبنان، يشير في الوقت نفسه إلى عجز الأفرقاء اللبنانيين عن عزل خلافاتهم الداخلية عن هذا التجاذب. ففي ظل الإجماع على انتخاب سليمان رئيساً باتت المشكلة إيجاد الوسيلة الدستورية لانتخابه، وطرح سلّة سياسية متكاملة لا تقتصر على أولى حكومات العهد الجديد، بل أيضاً مصير حكومة الرئيس فؤاد السنيورة وشرعيتها.
لكن كلام مبارك انطوى على ملاحظات أبرزها:
1 ـــــ حرص القاهرة على المحافظة على أسلوب مميّز في مقاربة الملف اللبناني لا تشاركها فيه دول عربية أخرى معنية، هو أنها تلامس الملف عندما يكون في مأزق، وتبتعد عنه ما إن يقترب من الحل كيلا تبدو عرّابته وشريكاً رئيسياً فيه. وهو الموقف الذي اتخذه الرئيس المصري غداة اغتيال الرئيس رفيق الحريري عام 2005 بأن رأى أن العقاب الصارم الواجب إلحاقه بسوريا في لبنان، سواء أكانت مسؤولة عن اغتيال الرئيس السابق للحكومة اللبنانية أم لا، هو خروج جيشها من كل الأراضي اللبنانية. وهو أيضاً دور التضامن الذي وقفه مبارك مع العاهل السعودي الملك عبد الله احتجاجاً على خطاب الرئيس السوري بشار الأسد في آب 2006، إبان الحرب الإسرائيلية على لبنان حيال نعوت قالت مصر إنها هي أيضاً المقصودة بها. وهو أيضاً الدور الذي اضطلعت به مصر من خلال وساطة الجامعة العربية لدى الأفرقاء اللبنانيين، في ظل اعتقاد شبه راسخ لدى مراقبين واسعي الاطلاع أن من الصعوبة بمكان، في بعض الملفات العربية، ومنها لبنان، فصل الدبلوماسية المصرية عن دبلوماسية الجامعة العربية. كذلك أسهمت القاهرة مع الرياض في تضييق العزلة العربية على دمشق وشجعت لاحقاً على فتح الحوار معها. وخلافاً للرياض، لم تنقطع يوماً الاتصالات المصرية ـــــ السورية.
وهو أيضاً وأيضاً موقف مبارك من استعجال انتخابات الرئاسة والزيارة المفاجئة للعماد سليمان للقاهرة منتصف تشرين الأول الفائت، قبل أن تبادر الدبلوماسية المصرية إلى نفي أي دور لها في طرح ترشيحه لانتخابات الرئاسة. حينذاك بدا ترشيح سليمان عاصفة سياسية عابرة إلى أن تيقن الأفرقاء اللبنانيون بعد أسابيع، منتصف تشرين الثاني، أن ترشيحه تجاوز كونه اقتراحاً برسم التداول إلى خيار حتمي أبصر النور مجدداً في 28 تشرين الثاني، بعد أيام من جهود مصرية ـــــ فرنسية جدية بذلك. كان على خط الدور المصري الفاعل في هذا النطاق رئيس المخابرات الوزير عمر سليمان.
بذلك يندرج الموقف الأخير للرئيس المصري في سياق توجّه قائل بأن الطريق الأقرب إلى الاستقرار اللبناني هو التوازن السياسي الداخلي، والتوازن في علاقات لبنانية ـــــ سورية مؤجلة.
2 ـــــ رغم أن الدبلوماسية المصرية لا تتردد في انتقاد الدور السلبي لسوريا حيال اضطراب الوضع الداخلي اللبناني، فإن ما عبّر عنه مبارك أمام نظيره الفرنسي نيكولا ساركوزي بدا على طرف نقيض مما تريد أن تذهب إليه الدبلوماسية الفرنسية مستقبلاً، أو في أبسط الأحوال العودة إلى ما كانت عليه بالفعل قبل سنتين ونصف سنة. وهو أن الحصول على مساعدة سوريا في الوضع اللبناني، في رأي القاهرة، يتطلب أمرين على الأقل: الاعتراف بالنفوذ السياسي الواسع لدمشق في المعادلة اللبنانية، واستمرار جهود الحوار والاتصال بها سعياً إلى المخرج الملائم للحل. وما تأفف منه ساركوزي، وقبله الرئيس الأميركي جورج بوش، من أن صبرهما حيال الأسد قد نفد، لا يشكو منه بالضرورة الرئيس المصري، وخصوصاً أنه أكثر العارفين بطموحات دمشق التي لا تكتفي بالاعتراف العلني بنفوذها السياسي في لبنان فحسب، بل أيضاً الإصرار على إرساء معادلة حكم متوازنة تضع حلفاءها في مجلس النواب وخارجه داخل هذه المعادلة. وهو مغزى مناداتها بحكومة وحدة وطنية لا تستثني أحداً داخل الحكم وخارجه، ومغزى موقف الوزير السابق سليمان فرنجية من أنه لا انتخاب لقائد الجيش رئيساً بلا ثلث معطل لأولى حكومات عهده.
تالياً، فإن التهديد الفرنسي المبطّن بالعودة بالعلاقات الفرنسية ـــــ السورية إلى ما كانت عليه قبل وصول ساركوزي إلى الحكم، في أيار 2007، يبدو بالنسبة إلى الموقف المصري سياسة قليلة الفاعلية، وتضاعف من ضعضعة الاستقرار في لبنان أكثر منها وسيلة ضغط مجدية لتطوير العلاقات الفرنسية ـــــ السورية.
3 ـــــ أضحت المشكلة المستعصية راهناً حيال علاقة كل من باريس والقاهرة بدمشق، نظراً إلى ما تمثله كل منهما في المعسكر الدولي والإقليمي المنضوية فيه، هي سبل التوفيق بين الخلاف مع الرئيس السوري وطلب مساعدته في الوقت نفسه لإعادة الاستقرار وانتظام عمل المؤسسات الدستورية في لبنان. وكلا الأمرين يتعارض مع الآخر. والواقع أن أركاناً بارزين في قوى 14 آذار، منهم رئيس اللقاء الديموقراطي النائب وليد جنبلاط، يعاكسون وجهة النظر المصرية، والفرنسية حتى قبل إعلان ساركوزي قطع الاتصال بدمشق، القائلة باعتماد سياسة الاحتواء مع سوريا. بل يرى جنبلاط أن سياسة كهذه، إذ يصفها بأنها خاطئة، قد تصلح للجماهيرية الليبية أكثر منها لسوريا التي تنجح دائماً ـــــ في رأيه ـــــ في قلب لعبة الاحتواء هذه رأساً على عقب، وتجعلها لمصلحتها هي من خلال قنوات الاتصال والحوار المفتوحة معها، والتي تعزّز شعور المسؤولين السوريين بأن المجتمع الدولي يسلّم لهم يوماً بعد يوم بنفوذهم السياسي الفاعل في لبنان.
وشأن حلفائه الآخرين في قوى 14 آذار، يلاحظ الزعيم الدرزي أن السياسة الفرنسية الجديدة أضعفت قوى 14 آذار.