strong>بسام القنطار
•تغيُّر المناخ والتمدد العمراني يهدّدان قمم لبنان

منذ العام 2003 خُصص 11 كانون الثاني للاحتفال باليوم العالمي للجبال، ويجري التركيز هذا العام على موضوع تغيُّر المناخ في المناطق الجبلية لأنه «حقيقة واقعة» لا يمكن التملص منها. ورغم أن جبال لبنان هي المكون الأكثر بروزاً لمعالمه الجغرافية، فمن المثير أن تقتصر فعاليات هذا اليوم على «رحلات سير على الأقدام» تنظمها شركات خاصة بتمويل دولي

كان من المعتقد، حتى فترة قريبة، أن التغيرات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية، وخصوصاً ظاهرتي العولمة والهجرة، هي القوى الرئيسية الدافعة للتغيير في حياة السكان الذين يقطنون الجبال. غير أن المعنيين بدأوا الآن يدركون أنه ربما كان لتغيّر المناخ وتبعاته تأثيرات مماثلة أو أشد قوة. ونظراً إلى أن هذا المعتقد جديد نسبياً، لم يُشمَل تغيّر المناخ على نحو واف في عمليات التخطيط ووضع القرارات المتعلقة بتحسين ظروف العيش في المناطق الجبلية.
ويعزى تغير المناخ أساساً إلى ازدياد تركيز غازات الدفيئة، مثل ثاني أوكسيد الكربون، في الجو منذ بدء الثورة الصناعية في القرن الثامن عشر. وقد أكد الفريق الحكومي الدولي المعني بتغير المناخ في عام 2007 أن الزيادة في انبعاثات غازات الدفيئة تعزى إلى نشاط الإنسان، وأن متوسط درجة حرارة كوكب الأرض سيستمر في الارتفاع.
الدليل الدامغ على ذلك يأتي من الجبال، حيث أطول سجل لقياسات ثاني أوكسيد الكربون المباشرة تسجل في القمم المرتفعة. غير أن تغير المناخ لا يتناول تغيرات درجة الحرارة فحسب، بل وكذلك هطول الأمطار وسقوط الثلوج وتكرار وقوع الكوارث الطبيعية كالعواصف والجفاف والفيضانات وموجات الحر الشديد. وتؤدي الجبال ذاتها أدواراً مهمة في التأثير على المناخ المحلي والمناخ العالمي معاً، حيث تدفع الجبال الهواء إلى الأعلى، ما يزيد كمية الأمطار والثلوج على الجانب المواجه للرياح، ويخلق مناطق أكثر جفافاً أو ما يسمى «ظلال المطر» في الجانب الآخر. وهكذا فإنه لن يكون ثمة موسم للرياح الموسمية، مثلاً، لولا جبال الهملايا العالية التي تعترض كتل الهواء الآتية من الجنوب. كما أن المياه التي تسقط على شكل أمطار في الجبال أو التي تخزن فيها على شكل ثلج أو جليد في الأنهار الجليدية ثم يطلقها الذوبان إلى الربيع والصيف، تعدّ مورداً حيوياً لما يزيد على نصف سكان العالم.
غير أن مناطق الجبال ذات تضاريس معقدة للغاية، ولذلك يتذبذب المناخ فيها بصورة كبيرة ضمن مسافات قصيرة، ومن المؤسف كذلك أنه لا توجد سجلات طويلة الأجل وموثوق بها للمناخ في الجبال، وخصوصاً في الارتفاعات الشاهقة. وسيؤدي تغير المناخ كذلك إلى تغيرات في الدورة الهيدرولوجية، ما يقلل كميات الثلوج ويزيد كميات الأمطار، بالإضافة إلى الكوارث الطبيعية والأكثر تكراراً مثل الحرائق والفيضانات والجفاف والعواصف. ويمكن هذه التغيرات أن تحدث في ظل زيادات طفيفة نسبياً في درجات الحرارة، ويمكن أن تكون ذات تأثيرات خطيرة على سبل المعيشة القائمة على الزراعة وعلى البنى التحتية والصحة.
وفي الوقت الذي تشهد فيه الجبال اللبنانية ظواهر مناخية واضحة المعالم، حيث لم تتكلل القمم بالأبيض إلا منذ أسبوع، بدأت المنتجعات الجبلية في أوروبا وأميركا الشمالية في تنويع خدماتها بغية التعويض عن فقدان السياحة الشتوية الناجمة عن قلّة الثلوج، وهو ما يعد مثالاً على الإدارة التكيفية في مواجهة تغير المناخ.
المدير العام لوزارة البيئة بيرج هاتجيان أكد في حديث إلى «الأخبار» أن الجبال في لبنان هي ثروته الأساسية التي يجب أن تحظى بأكبر قدر من الرعاية، مشيراً إلى أن أهمية جبال لبنان «تعود إلى أمرين أساسيين: الأول أنها تشكل خزاناً أساسياً لمياه الينابيع، وتحتضن الرقعة الخضراء، وبالتالي فإن مستقبل لبنان الاقتصادي هو في الحفاظ على هذه الجبال، وخصوصاً لجهة منع التوسع العمراني في المناطق التي يزيد ارتفاعها على 1500 متر. الأمر الثاني هو أن هذه الجبال تحتضن المجتمعات الريفية المهددة بالنزوح والهجرة إلى المناطق الحضرية، ما يسبب اختلالاً في توازن النظم الإيكولوجية».
ويشدد هاتجيان على ضرورة استعمال الموارد المستجدة في الجبال والابتعاد نهائياً عن أي استخدام للموارد غير المتجددة. ويضيف: «الخطة الشاملة لترتيب الأراضي واستعمالاتها في لبنان رأت قمم الجبال من المناطق الحساسة، وهناك مشروع قانون أعده مجلس الإنماء والإعمار عن قمم الجبال، ومن الضروري التعجيل في إقراره، لأن من شأن ذلك أن يعزز سبل الحماية القانونية».
ومن المعلوم أن السكان المقيمين في غالبية مناطق الجبال اعتادوا حقيقة أن مناخ هذه المناطق يتذبذب بصورة ملموسة من سنة إلى أخرى، ومن موسم إلى آخر، ومن يوم إلى آخر على ارتفاعات مختلفة، وحتى على المنحدرات ذات التوجه المختلف بالنسبة إلى الشمس والرياح. وقد أخذت نظم استخدام الأراضي التقليدية هذاالتفاوت في الحسبان. وذلك من خلال زراعة النباتات التي تعشق الشمس في المنحدرات الأكثر دفئاً ونقل الماشية إلى المراعي الصيفية العالية عقب ذوبان الثلوج على سبيل المثال.
ومن الممكن أن يتغير المناخ في المستقبل بصورة تتجاوز الحدود التي كانت معروفة في الماضي. وأخطر ما في الأمر أن الكوارث الطبيعية قد تصبح أكثر شيوعاً وأكثر شدة في مناطق الجبال، ما يهدد سبل معيشة سكان الجبال ومن يعتمدون على مناطق الجبال للحصول على كميات ونوعيات معينة من الماء وعلى الغذاء والموارد الأخرى. كذلك قد يواجه المسافرون الذين يستخدمون ممرات الاتصال الحيوية مخاطر طبيعية أكثر تكراراً، من ضمنها تساقط الصخور والانزلاقات الأرضية الناجمة عن تخلخل تربة المنحدرات.
وبالنسبة إلى حبيب معلوف، رئيس حزب البيئة اللبناني، فإن «قمم الجبال هي ثروة لبنان الحقيقية، وهي أثمن بكثير من احتياطي الذهب الموجود في مصرف لبنان». ولفت إلى أن حزب البيئة «يعمل على إعادة النظر بكل السياسات المائية في لبنان، التي لم تنجح حتى الآن في توفير حلول لمشكلتي الندرة والتلوث، مع ما يتطلبه ذلك من إعادة النظر بالنصوص التشريعية، ولا سيما لناحية ضرورة اعتبار المياه من الموارد الطبيعية التي يفترض أن لا تكون ملكاً لأحد، تشرف على إدارتها الدولة، ضمن سياسات توفر شروط السلامة العامة، وتقوم على حماية مصادر المياه، ولا سيما تلك الجوفية منها.
وينبه معلوف إلى خطورة المشاريع المقرر إنشاؤها على قمم الجبال اللبنانية، مثل مشروع «صنين زينة لبنان» و«مشروع إهدن» ومشروع «جبلنا» في جبل الكنيسة، وغيرها من المشاريع. ويستغرب معلوف ألا يسمع أي نقد لتلك المشاريع المسماة سياحية، بصرف النظر عن هوية مالكيها، التي ستسبب تلويث خزانات المياه الجوفية بشكل خطير. فهذه المشاريع يمكن أن تحمل مخاطر مؤكدة على الثروات الطبيعية للجبال، وتهدد المياه الجوفية وتسبب تلويث الهواء والتربة. وعادة ما تُقَرُّ هذه المشاريع من دون درس أثرها البيئي، وفي غياب المخطط التوجيهي العام وترتيب الأراضي اللبنانية. بالإضافة إلى الخسائر المتزايدة في التنوع البيولوجي في لبنان بشكل عام وللغطاء الأخضر خصوصاً مع حجم الحرائق في العام 2007، بالإضافة إلى خسائر في بعض الأنواع التي لا تعوض ولا تقدر بثمن.
ويوصي معلوف بضرورة تشجيع المباني التي تقتصد في استخدام الطاقة في الجبال وفي غيرها من المناطق، وتحويل عمليات الشحن ذات المسافات الطويلة التي تمر عبر جبال من الطرق البرية إلى السكك الحديدية، الأمر الذي سيساعد على سبيل المثال في تشجيع انتقال المقالع والكسارات إلى السلسلة الشرقية من الجبال اللبنانية ويوفر الكثير من حوادث السير على الطرقات الجبلية التي تنتهكها عشرات الشاحنات يومياً.
ويؤكد الدكتور نجيب فرج الله الأستاذ المحاضر في الجامعة الأميركية في بيروت والمتابع لقضايا تغيّر المناخ أن الجبال اللبنانية «متأثرة تلقائياً بظواهر تغيّر المناخ على المستوى العالمي، وخصوصاً لجهة ارتفاع درجة الحرارة وأثرها على الذوبان السريع للثلوج، الأمر الذي سينعكس على غزارة الينابيع وبالتالي سيزيد من ندرة المياه خلال فصل الصيف». وأضاف في حديث إلى «الأخبار» أن الزراعة «ستكون من أكثر القطاعات تأثراً بهذه الظاهرة، وخصوصاً لجهة انجراف التربة الناتج من انخفاض الغطاء الأخضر. والجفاف والحرائق سببان رئيسيان لتدهور الأراضي وانخفاض مستوى الغطاء الأخضر».
ويتخوف فرج الله من انعكاس الظاهرة المناخية على المناطق الرطبة في لبنان، وخصوصاً في عميق ورأس العين، الأمر الذي سينعكس على التنوع البيولوجي حيث تشكل هذه المناطق الموئل الطبيعي لعشرات الأنواع من الطيور والكائنات الحية الأخرى.

مؤتمر ورحلات «مسؤولة»

لمناسبة اليوم العالمي للجبال، نظّم عدد من شركات القطاع الخاص وبتمويل من الجهات المانحة الدولية مجموعة من الأنشطة. فبدعوة من شركة Cyclamen، وللسنة الخامسة على التوالي، نظّمت أول من أمس رحلة سير على الأقدام ومسيرة على الثلج من منطقة تنورين إلى العاقورة، بهدف تسليط الضوء على أهمية السياحة البيئية. ونظم الحدث بالتعاون مع شركة TLB Destinations وبدعم من: USAID, INMA, SRI, Credit bank.
كما نظمت شركة Responsible Mobilities وبالتعاون مع منظمة الأغذية والزراعة FAO والجامعة اليسوعية ووزارة البيئة مؤتمراً في الجامعة اليسوعية السبت الماضي. وسلط المؤتمر الضوء على التغير المناخي في المناطق الجبلية اللبنانية وتسارع وتيرته، وكيفية مواجهة المشاكل والقضايا الموضوعية واقتراح الطرق التي يمكن للبنان من خلالها، تجنب التغيرات المناخية الجذرية، وعرض أمثلة محددة للإجراءات العملية للحد من الآثار السلبية لتغير المناخ أو تخفيفها، وخاصة في المناطق الجبلية.
وستتبع المؤتمر رحلة سياحية إلى منطقة عكار، بهدف دعم المجتمعات الريفية في الجبال اللبنانية ثقافياً وبيئياً واقتصادياً وذلك في 15 و16 الجاري.