جان عزيز
ما الذي يجعل التضافر بين عوامل التصعيد أو التفجير أو العرقلة، ممكناً في هذا الشكل الذاتي الحركة، حتى تبدو المعوّقات في لحظة ما، كأنها متزامنة ومتلازمة؟
اغتيال اللواء الركن فرنسوا الحاج، بدا بعد ثلاثة أيام على وقوعه، كأنه جزء من ذاك التضافر التصعيدي، أو حلقة ضمن سلسلة استهداف الحل. وهو ما يجعل السؤال عن مايسترو التعطيل وهويته. أكثر حساسية وصعوبة.
أصلاً، كانت إشارات العودة من الحل قد بدأت تتلاحق، قبل صباح الاغتيال يوم الاربعاء الفائت في 12 الجاري. وإذا كان قد بات متداولاً التساؤل عن التغيير في لهجة سعد الحريري بعد عودته من الرياض، فإن مؤشرات أخرى كانت أكثر وضوحاً، قبل أن تطمسها موجة الوجوم الناتجة من حدث الاغتيال.
فمن جهة أولى، كان الكلام قد بدأ قبل الجريمة بنحو 48 ساعة، عن اتجاه حكومة السنيورة إلى تعيين وزير بديل عن الراحل بيار الجميل. والمسألة التي اضطر فريق السلطة إلى نفيها تحت وقع اغتيال الحاج، لم تلبث أن عادت إلى الظهور أمس مع تأكيد أكثر من مصدر حكومي جديتها، وبعدما تبيّن أن الموضوع كان قد بُحث مع الرئيس أمين الجميل وجهات موالية.
ومن جهة ثانية، لم تكن مصادفة أن يكون مسيحيو الموالاة قد تداعوا إلى اجتماع، حدّد مسبّقاً يوم وقوع الجريمة، علماً أن مكان الاجتماع كان مدار بحث ومساومة، بين معراب اقتراحاً أول، قبل أن يتحول إلى الصيفي.
وإذا كانت جريمة بعبدا قد حوّلت البيان الختامي نحو الحدث، إلا أن ذلك لا ينسي ولا يسقط سلسلة التساؤلات المفترضة سابقاً، من نوع: هل كان الاجتماع مقرراً لتقديم تغطية مسبّقة لخطوة السنيورة في التعيين الوزاري، على طريقة المطالبة بذلك؟ علماً أن بعض ثنايا بيان اجتماع الصيفي، بدا كأنه استبقاء لما كان مفترضاً أن يصدر في البيان الأساسي، وخصوصاً لجهة مطالبة فريق السرايا بسد الفراغ وتحمّل المسؤولية.
ومن جهة ثالثة، سجّل أيضاً الموعد الذي كان مقرراً صباح الاغتيال أيضاً لعدد من سياسيي الموالاة في بكركي، وما صدر عنهم من مواقف استعادت مقولة النصف زائداً واحداً، قبل أن تخفّفها وطأة الجريمة اللاحقة، وتدفع أصحابها إلى سحبها وطلب إسقاطها من وسائل الإعلام.
هكذا، واستناداً إلى ما سبق وإلى إشارات أخرى أقل بروزاً، يبدو أن فريق الموالاة كان يستعد بدءاً من الأربعاء الفائت، لشن حملة كبرى، تهدف إلى أمر من اثنين: إمّا بداية التكيّف مع عملية إدارة مطبقة لفراغ رئاسي طويل أو حتى مستدام. وإمّا العودة الى لغة الخيارات القيصرية والجذرية.
لكن اللافت أن هذه التحضيرات تزامنت مع اغتيال الحاج، وهو ما يمثّل حلقة أخرى، مقابلة أو موازية في سلسلة التعطيل. ذلك أن هذا الضابط المتقدم والمتميز، كان في موقع يمثّل في شخصه ومستقبله جزءاً من الحل الآتي، فالجميع يدرك أن التسوية المطروحة، موقّعة على بنود المبادرة التي طرحها العماد ميشال عون، والجميع يدرك أن بين هذه البنود، ذاك المتعلق بقيادة الجيش، وبالآلية والشخصية الممكنتين لملء هذا الموقع، بعد انتخاب العماد ميشال سليمان رئيساً للجمهورية.
وفي هذا السياق، بدا لوهلة أن هذه المسألة قد تمثّل نقطة خلافية بين أطراف التسوية الثلاثة، أي بين المعارضة التي تتمسك بحق تسمية الموقع، كجزء من قاعدة الحقوق المسيحية، وبين الموالاة التي ترفض التسليم بذلك، على خلفية احترام الأصول الدستورية، وبين رئاسة الجمهورية المقبلة، المتمسكة بتقليد حقها في اختيار قائد الجيش.
وليست مصادفة ولا تفصيلاً، أن يكون اللواء الشهيد، نقطة توافق وتزكية وإجماع بين الجهات الثلاث، فعون يريده للموقع، والموالاة لا تقدر على رفضه والرئيس المقبل قيل إنه كان قد حسم خياره لمصلحته وأعلنه في شكل شبه رسمي قبل أيام، كما ينقل أحد الرفاق السابقين للشهيد.
هكذا صار اغتيال الحاج اغتيالاً لموقع مفصلي من مواقع التسوية، وفق جدول أولوياتها الداخلية، لكن الأهم، أن ثمة بعداً آخر لهذا الموقع، وهو المرتبط، بما كان قد تردد أخيراً عن تغيير نوعي في مقاربة الحل اللبناني، كما خططت له وأرادته القوى الخارجية المعنية. فالتسوية التي أقرت بين الفرنسيين والسوريين بدايةً، لتكون التقاءً على منتصف الطريق بين شروط الجميع ومطالبهم، قيل إنها تطورت تدريجاً، أو ظهرت نياتها وحساباتها المخفية، لتصير استراتيجية أميركية مستعادة، تهدف الى التحوّل من الحل الفرنسي بدايةً، إلى الحل الأميركي نهايةً. ومن التلاقي من الوسط إلى الاستدراج نحو الخيارات الطرفية، ومن التوافق على تجميد المسائل الخلافية الأساسية، إلى المناورة ومحاولة القضم البطيء والمتلاحق. وفي صلب هذا التحول يبرز موقع قيادة الجيش، مفصلاً أساسياً في الخضوع لمقتضبات التحوّل، بحيث إن القائد الصالح لخيار التسوية، قد لا يكون هو نفسه المطلوب لخيارات المناورات والانقضاض.
تماماً كما حصل مع رينيه معوض، لحظة الانتقال من الطائف العربي، إلى الطائف السوري. من الذي انقلب اليوم؟ لا جواب حتى الآن، في انتظار جلاء الغموض حول حقيقة العلاقة على مثلت دمشق ـــــ الرياض ــــ واشنطن. لكن الظاهر أن ثمة في الخفاء من يعرف تلك السياقات، ويجيد استغلال هوامشها ليراكم فجأةً عوامل العرقلة، في شكل يعطي انطباع المفارقة، مما يزيد في التعقيد ويخدم الهدف أكثر.