strong>ديما شريف
• صور الزعماء في طرابس مصدر رزق جديد لأبناء المدينة

«نثق بهذا الرجل»، «الكرامة أغلى من المال»، «رجل الدولة»،«يلّي خلّف ما مات». تعليقات على صور منتشرة انتشار الجراد. طرابلس التي لا يعرف أكثريّة سكانها من هو نائبهم عن المقعد الماروني مثلاً، تعيش وقائع السجال السياسي بأسلوبها الخاص

في عاصمة الشمال، لم يعد التعبير عن التوجهات السياسية المختلفة يدور من خلال النقاشات وحسب، بل امتد إلى شرفات المنازل وواجهات المحال، إضافة إلى لوحات عملاقة على جوانب المباني، تخدم تارة للإعلان عن منتج، وتارة أخرى للترويج لزعيم. صور الشخصيات السياسية في هذه البلاد، السنّية بالتأكيد، تشعرك بجوّ انتخابي محتدم باستمرار.
تتجول في المدينة، فترى التنوّع السياسي في الشارع الواحد والتنافس على من يحصل على المرتبة «الأعلى». فلا أحد يريد أن يكون فوق صورته سياسي آخر، حتى لو كان حليفاً له. فتنتشر كل يوم صور جديدة على شرفات تعلو طابقاً عن سابقاتها، يتفنّن أصحابها في التغزّل بالزعيم، بأخلاقه وكرمه وحاجة المدينة والوطن إليه. والولاء لمن يدفع أكثر، وهذا واضح في المناطق الشعبيّة التي زالت منها صور الزعماء التقليديّين للمدينة، وحلّت صور أصحاب المال السياسي مكانها.
منذ سنوات، كانت صور السياسيين قليلة نسبياً في شوارع المدينة، لكنّها زادت بشكل ملحوظ بعد انتخابات الـ2000 والـ2005 النيابيتين. ولم تأتِ الطفرة في انتشار الصور إلا بعد 14 شباط 2005، حين اجتاحت الشارع الطرابلسي موجة تعاطف وحزن بعد اغتيال الرئيس رفيق الحريري، فانتشرت صور الراحل في أرجاء المدينة مذيّلة بعبارات الترحم عليه والتغني بمزاياه. في الفترة بين الانتخابات النيابية الأخيرة وموعد الانتخابات الرئاسية الحالية هبّت رياح التغيير على المدينة، فأصبح كل زعيم يريد أن يرى نفسه معلّقاً فوق رؤوس المواطنين، يتصبّحون ويتمسّون بوجهه المبتسم يومياً ليسترزقوا. وانتشرت الصور بشكل مخيف في المدينة لدرجة أن محالاً عدة تحوّلت إلى «حرفة» الصور، فباتت متعة النظر إلى صور الزعماء السلعة الوحيدة التي تقدّمها.
الانتشار الأكبر للصور هو بالطبع في المناطق الشعبية، حيث نجد كثافة كبيرة في منطقتي باب التبانة وباب الرمل.
التبانة التي كانت مركز نفوذ سوري كبير، تحولت إلى النفوذ الحريري. وانتشرت صور كل من فؤاد السنيورة، وسعد الحريري ورفيق الحريري في فترة السنتين الماضيتين. ولكن رياح التغيير طالت المنطقة في الشهور الماضية، فتبدّل بعض الصور وبرزت أخرى جديدة للزعماء السنّة الآخرين في المدينة، مثل الوزير محمد الصفدي والرئيس نجيب ميقاتي. بعض المواطنين ممن قاموا بتغيير صور النائب الحريري من منازلهم ومحالهم (وطلبوا عدم نشر أسمائهم) قالوا إن طروحات «المستقبل» لم تعد تناسب توجهاتهم السياسية، فهم وإن تعاطفوا وما زالوا مع آل الحريري، لا يريدون أن يكون لبنان صديقاً لأميركا التي أدخلت السوريين إليه وسمحت للجميع بنهبه دون أن تحرّك ساكناً.
الوضع مماثل في منطقة باب الرمل التي كانت منطقة نفوذ تقليدية هامة لآل كرامي، ولكنّ صوراً جديدة دخلت على خط التنازع السياسي على المنطقة الزاخرة بالأصوات الانتخابية. فهي تعجّ اليوم بصور كل السياسيين. ويتنافس أصحاب الشقق في وضع صور الزعماء على شرفات منازلهم بطريقة يراها كل من في الحي، وكذلك يفعل أصحاب المقاهي والمحال في الشارع حيث يضعون الصور الكبيرة الحجم أمام محالهم وعلى الواجهات الزجاجية.
طلال عرب، أحد سكان المنطقة، يقول إنه جرى الاتصال به من جانب عدد كبير من «مفاتيح» المنطقة ليضع صورة لهذا الزعيم أو ذاك على شرفة منزله ذات الموقع الاستراتيجي. ولكنه يرفض دائماً لكونه لا يحب أحداً منهم، فهو يرى أنهم لم يفعلوا شيئاً للمدينة ولا يتذكرونها سوى في الانتخابات. لكنّه يستدرك قائلاً إنّه يفكر في طبع صورة كبيرة لأحد الرموز الشمالية على نفقته وتعليقها على شرفة منزله لأنه يرى فيه الوحيد الذي «يستاهل».
التضامن مع الجيش أخذ نصيبه من الصور أيضاً. فمنذ نهاية «حرب البارد»، رُفع بعض اللافتات التي تنوّه بجهود الجيش وقائده في إعادة الاستقرار والقضاء على الإرهابيين. ولكن بعد طرح اسم قائد الجيش العماد ميشال سليمان مرشحاً توافقياً للرئاسة، وخصوصاً بعد تبنّي الأكثرية له مرشحاً لها، برزت الصور الكبيرة التي نُصبت في أماكن استراتيجية في المدينة. صور قائد الجيش في زيّه العسكري وفي زيّ مدني، تطالب به منقذاً من الأزمة التي يعيشها البلد، أو مخلِّصاً للوطن، في ترداد للشعارات التي تأتي بها نشرات الأخبار.
رسمياً، لا يدفع الزعماء أي مبلغ مالي مقابل تعليق صور لهم، ولكن الأسعار معروفة: مئة دولار لصور ورقية عادية الحجم على واجهة محل، وألف دولار لصورة كبيرة على شرفة منزل أو عقار في موقع مطل وكاشف. وبين هذين المبلغين يقوم مكتب أحد المسؤولين بدفع معاشات شهرية (600 ألف ليرة لبنانية) لمن يعلّق صوره ويروّج له، وغيره يقوم بدفع إيجارات المحال التي تعلّق صوره. كما يقوم أحد التيارات بدفع مبلغ 100 دولار أميركي شهرياً لأفواج من الشبان ليقنعوا أصحاب المحال بتعليق صور زعيم التيار على واجهات محالّهم. هذا الإيجار الشهري أصبح مصدر رزق للعديد من العائلات التي ترى أن هذا من حقها الطبيعي.
ويستطيع المراقب أن يلاحظ بسهولة زيادة عدد الصور في الشهور الأخيرة، وتحديداً منذ بداية السجال على رئيس الجمهورية المقبل، وبالتالي وجوب الإتيان بوزارة جديدة. فـ«قلعة المسلمين» السنّة لا بد من أن تدفع بمرشحيها لمنصب رئاسة الوزراء إلى الواجهة عبر التغنّي بمزاياهم على ملصقات «تزيِّن» شوارع المدينة. ومدينة العلماء، التي تنتظر أي مشروع اقتصادي كبير ينتشل أبناءها من خطر البطالة ويعيدها فاعلة على الساحة الاقتصادية، وجدت في صور السياسيين طريقة لكسب إضافي يُبعد عنها شبح العوَز والحاجة.



دعاية متحرّكة

ورشة إعادة تأهيل وترميم كل المباني في طرابلس القديمة لم تقف حجر عثرة في طريق انتشار الصور السياسية في المدينة، حيث تُزال الصور خلال أعمال الترميم، وتعود بعدها إلى الظهور على شرفاتها بحلّتها الخشبية الكبيرة، لتكون زينة ضرورية للحياة اليومية في المدينة.
إلى جانب ذلك، يمكن تمييز الانتماءات السياسية لسائقي سيارات الأجرة، إذ لا تخلو سيارة من ملصق لزعيم أو سياسي من داخل المدينة أو خارجها. كما أن العربات والبسطات المتنقلة أصبحت وسيلة دعاية أيضاً، وهي، كما المحال والبيوت، تزخر بصور الزعماء المحلّيين الذين يُنعمون على الفقراء والمحتاجين بمساعدات موسمية في المناسبات الدينية كما في مواسم الانتخابات.