strong>أنطون الخوري حرب
قد لا يجيد متبصّر في السياسة اللبنانية تشخيص التفاعل المسيحي فيها، والماروني تحديداً كرئيس حزب الكتائب كريم بقرادوني. ورغم خيباته العديدة منهم، وهو الذي أدّى دوراً محورياً في كل عهودهم منذ الياس سركيس حتى اليوم، وفي ظل انطباع عن انكفائه لمصلحة آل الجميل يبدو أنه ما زال يحتفظ ببقية من أمل أو رهان، أتاح له التأمّل في رؤية صيغة وفاق مسيحي مسيحي. وهي مهمته اليائسة دوماً على وقع قرقعة سلاح العنف الدموي الذي يقودهم كل مرة الى السقوط وإعادة الكرّة من جديد.
وينطلق بقرادوني في رؤيته الجديدة من منطلق يختلف عن المنطلقات المتداولة في أفق الحلول المسدودة، إذ إنه يرى أن تجربة الجبهتين (8 و14 آذار) إيجابية من حيث فرز الانقسام الحالي على أساس سياسي لا طائفي، ويجب أن يحافظ عليها ولو أنها قائمة على قاعدة التحالفات الانتخابية. وتبقى بالتالي أفضل من الحركة الوطنية والجبهة اللبنانية في ما مضى. فالانقسام المذهبي يتبلور باتجاه صراع سني ــ شيعي حتى الآن، لأن جبهة 14 آذار تتخذ طابعاً مذهبياً سنّياً، رغم وجود حزبي الكتائب والقوات اللبنانية فيها. وجبهة 8 آذار تتخذ طابعاً مذهبياً شيعياً، رغم وجود التيار الوطني الحر وتيار المردة فيها.
ولكي لا ينزلق الوضع نحو الاسوأ، يرى بقرادوني أنه يجب أن يتوحد المسيحيون في جبهة وطنية تحول دون صراع سني شيعي، مرشح لأن تنضم إليه القوى المسيحية ويؤدي إلى الانهيار، ولا ينفجر الصراع السني الشيعي في ظل انتفاء الصراع الإسلامي المسيحي، لأن بإمكان «رئيس تكتل التغيير والإصلاح ميشال عون والوزير السابق سليمان فرنجية التأثير على رئيس المجلس النيابي نبيه بري والأمين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله، كما بإمكان الرئيس أمين الجميل ورئيس الهيئة التنفيذية في القوات اللبنانية سمير جعجع التأثير على رئيس كتلة المستقبل سعد الحريري ورئيس اللقاء الديموقراطي وليد جنبلاط». ومن هنا، فإن مشهد الصراع القواتي العوني ليس صراعاً مذهبياً وهنا صمام أمان صيغة الوفاق المسيحي المطلوبة.
ويستذكر بقرادوني تجربة الفلسطينيين والمسيحيين بين عامي 1973 و1975، إذ «وقّعنا من الاتفاقات ما لا يحصى ولا يعدّ من أجل تطويق المشاكل بين الطرفين، ولكن هذه الاتفاقات لم تمنع وقوع الحرب. وهذا لا يعني أن لا أهمية لوثيقة خطية يوقّع عليها الأطراف المسيحيون الأساسيون الأربعة، أي القوات والكتائب من جهة، والتيار الوطني الحر والمردة من جهة أخرى. لكن التلاقي المستمر هو الأهم، وهو الذي يحوّل الوثائق الى وقائع».
وإذ يؤكد بقرادوني أن هذا الطرح «هو في الأساس لبكركي التي تتوق وتدعو ضمناً وعلناً ودائماً إليه»، فإنه يكشف أن خطوتها المقبلة هي جمع القادة الأربعة في صرحها وبرئاستها وحدها، وهكذا يكتمل جدول مبادرة الوفاق المسيحي في البطريركية المارونية بمبادرة بكركي الى وضع ميثاق أو شرعة إنسانية مسيحية تقوم على الاعتراف بحق الاختلاف السياسي والتزام الأطراف بانتهاج الأصول الديموقراطية السلمية ويحرم اللجوء إلى أي شكل من أشكال العنف. ومن ثم دعوة البطريرك للقاء الرباعي وبعدها تسمية اللقاء باسم الموقع الجغرافي الذي يحصل فيه، ويرأسه البطريرك بصورة دائمة وتنتهي المبادرة الى لقاء مسيحي عام يتبنى الشرعة المذكورة.
ويأخذ بقرادوني في الاعتبار عمق الانقسام المسيحي الحالي، إلّا أنه يرى أن المبادرة يمكن أن تبدأ بلقاءات مسيحية ثنائية ثم رباعية قبل أن تصبح مسيحية عامة. ويذكّر بقرادوني بأن همّ المسيحيين قبل عام 2005 كان في البحث عن قادة غير موجودين جرّاء السقوط الذي حدث في عام 1990. أما اليوم، فهناك حضور ورأي يجب أن نجعل منه مشروعاً وطنياً لا فريقاً تابعاً، «فعلينا أن ننتقل من منطق الفريق الى منطق الحل، أي يجب أن نكون جزءاً من الحل».
ويؤكد بقرادوني تجاوب المرجعيات السياسية المسيحية الأربع مع المبادرة، ووجود شعور لدى هذه المرجعيات بضرورة تذليل أزمة الثقة في ما بينها، معتبراً أن ما «يسهّل هذا الأمر هو أن خلافاتهم ليست مبنية على مشاريع سياسية متناقضة. وأهمية المبادرة البطريركية أنها تؤمّن التواصل المباشر بينهم ثنائياً أو جماعياً، لا بالواسطة، لأن الاتفاقات وحدها تحتمل العمل بالواسطة في أزمة كالأزمة اللبنانية اليوم».
ويشير بقرادوني إلى «أن الظروف الموضوعية الحالية تشكل الحليف الأكبر لهذه المبادرة. فما من فريق قادر أن يواجه أو أن يحلّ الأزمة بمفرده. وبالنهاية، فإن القادة الأربعة لديهم تجارب وكانوا ضحايا التشرذم المسيحي خلال الحرب وبعدها وجميعهم دفعوا أثماناً، وقد يدفعون أكثر إن لم يتوصلوا إلى إطار جبهوي حقيقي، يكون المرتكز فيه الاتفاق على المسائل الكبرى من الاستحقاق الرئاسي، الى الحكومة، فالمحكمة الدولية. وذلك على خلفية ترتيب الأولويات التي تشكل عصب المشكلة التي يجب الاتفاق عليها. ولا يحصل هكذا اتفاق من دون لقاء جدي. فهم متفقون مثلاً على ورقة الثوابت المارونية، لكنهم لا يجتمعون ليتفقوا على ترتيب الأولويات التي تتضمنها».
ولا يبدو بقرادوني مطمئنّاً إلى تطمينات السيد نصر الله بعدم الانجرار الى فتنة داخلية «لأن النيات الصادقة وحدها لا تكفي، ولا أعتقد بإمكان تغلبها على الظروف النوعية والتدخلات الخارجية غير المرئية»، منبهاً المسيحيين الى أن عام 2007 هو عام الاستحقاقات الداخلية والإقليمية والدولية، وقدرتهم اليوم على صناعة الحدث كبيرة وأمامهم فرصة كبيرة لبناء علاقات نوعية في ما بينهم ومع الآخرين.
فهل تصح خيبة كريم بقرادوني ويلقى موارنة لبنان ومسيحيوه ومن ورائهم كل طوائفه، المصير البائس الذي كانوا يلقونه كل مرة، أم تصحّ نظريته فيكون الاستثناء المبشّر بفجر لبناني آمن ومشرق؟