قساوة القدر
  • روز زياده

    فأما ذلك اليوم وتلك الساعة فلا يعلمهما أحد ولا الملائكة الذين في السماء ولا الابن إلا الآب؟ فاحذروا واسهروا وصلّوا لأنكم لا تعلمون متى يكون الزمان (مرقس 13/32-33). الإيمان الذي زرعه فينا السيد المسيح هيّأنا لتقبّل الحتمية القدرية التي خطفت الأستاذ جوزف سماحة بعيداً. أخذته برحلة لا عودة منها وتركتنا بذهول غير مصدقين كيف يسقط هرم متين مثل جوزف سماحة. ولكن، هل يرحل أصحاب الأقلام المتوقدة البصيرة؟ وهل يفنى المعتقد الوطني الذي يسطّر كل يوم على صفحات الصحف ويكرز به بين الجماعة؟
    توقف القلب المرهف من دون ضوابط. توقف في الربيع الثاني من العمر. حمل كتفيه الضاغط لم يتمكن إلا من الاستئثار بهذا الذي فيه من الحب والرأفة فيض فتوقف حيثما الحاجة إليه، عائلياً ووطنياً. وينشف الحبر في القلم، ونحن أحوج ما نكون الى سيلانه بالتوئدة، والحكمة، والمنطق، والإسهاب الذي يفتح أمام القارىء كوة نور في أفق ظلام السياسة الذي نعانيه هذه الأيام .
    هكذا عرفتك، رئيس تحرير جريدة الأخبار. هذا الأسلوب اللبق الذي قرأتك فيه والذي سنفتقده بفقدانك.
    أستاذ جوزف بكل ما لنا من إيمان ورجاء نطلب منه تعالى ان يسكنك فسيح جناته ويلهم عائلتك وزملاءك الصبر والسلوان.


    عادة سيئة

  • أرنست خوري

    سخيف ما سأحاول قوله في هذه الكلمات، لكنّه نوع من السخافة التي تستحقّ القليل من التفكير للتذكّر فقط.
    عندما يموت شخص نحبّه أو نفتخر بمعرفته أو يكون قد ترك فينا أثراً.. نحزن ليوم أو اثنين، لأسبوع أو اثنين، لشهر أو اثنين. خلال هذه المدّة، نخصّص لذكرى هذا الشخص القسم الأكبر من تفكيرنا ووقتنا.
    بعدها، تعود دورة الحياة الى روتينها ورتابتها القاتلين، وتعود ذاكرتنا لتبييض الصفحة تمهيداً لتسجيل الأحداث اليوميّة، ولا يبقى لذكرى المتوفّى إلا مساحة ضيّقة، لا تتصدّر التفكير إلا في المناسبات والصدف... لم أخترع البارود بهذه الإشارة البديهية، فالموضوع يتعلّق بما يسمّيه البعض «نعمة إلهية»، وآخرون يعتبرونها من طبيعة الذاكرة البشرية، والأكيد أنّ هذه النعمة ــ النقمة التي تسمّى «النسيان»، هي في آن، أكثر من ضرورية لاستمرار الحياة، لكنّها أيضاً تحوّلها الى مسيرة عبثيّة قد نعتبرها في لحظات الغضب والكفر بكلّ المسلّمات والقيم، من دون معنى ولا مغزى.
    نعم، إنّ النسيان يجنّب الإنسان «مضار الحزن» القاتلة والتي قد تصل الى الموت الأكيد، لأنّ للدماغ البشري وكلّ ما يتّصل به من أعضاء، قدرة محدودة على تحمّل الحزن.
    هذا جانب، لكنّ هذا هو النصف الإيجابي من الحقيقة. النصف الآخر منها أقرب الى بشاعة هذه الحياة. النسيان «عادة سيئة» لا «تشطب» من سجلاتنا الذكريات السيئة فقط، لكنها تُلغي معها أحداثاً صنعتنا، وأشخاصاً أحببنا ولا نريدها أن ترحل.
    رحل جوزيف سماحة هكذا ببساطة وسخافة! نام ولم يستفق. صحيح أنّه مات من دون عذاب ووجع، لكنّه مات. توفّي الرفيق، الفهيم، الكبير بتواضعه وثقافته وفكره وإنسانيته وعبقريته ويساريته... بكيناه، شعرنا بأنّ شيئاً عظيماً انتهى، مسيرةً رائعة من مناقشة الأفكار وتحليل المعطيات والالتزام الفكري والاجتماعي والإنساني تبخّرت فجأة، ومن دون مبرّر. للحظة، شعر كُثر منّا بأنّ كلّ شيء انتهى.
    لم ينتهِ كلّ شيء. لنحاول مقاومة النسيان من دون أن نتركه يقتلنا. أمامنا الكثير لفعله. تركنا الأستاذ والرفيق جوزيف، لكن لنتذكّر أنه «لم يبقَ أمامنا سوى كلّ شيء». قالها أنسي الحاج منذ سنوات قبل وفاة صديقه جوزيف، لكنّها حقيقية جدّاً وصالحة اليوم بغياب جوزيف أكثر من أي وقت مضى.
    لقد اعتبر زياد الرحباني أنّ الراحل كان من الذين يمكن حصرهم ضمن أصابع اليد الواحدة من الشيوعيين «النظيفين» في هذا البلد. سينضمّ كثُر الى القافلة، الطرق طويلة مع هؤلاء ومع الذين بقوا من أصابع اليد الواحدة... وزياد الرحباني أوّلهم.