أنسي الحاج
• هل تَفْتح؟
خارج الباب أنت في متناول المجهول، داخل الباب، المجهولُ يلتمس ضيافتك. هل تَفْتح؟ تغايبْ. لو كان الطارق هديةً لجاءك على خَدَر منك. الحذر والخَدَر. الفرق نقطة ما بين الوعي المسنّن اليابس وطراوة اللاانتباه. العالم خارج الباب المغلق لا هو لكَ ولا هو عليك، إنه صَنَم صاخب. ماذا يريد منك؟ الأفضل أن لا يبعث لك برُسُل. الأفضل أن لا تفكّر فيه. نَمْ، دع العناصر تُتمّ أغراضها. ما يجيئك بغير علمك أفضل ممّا يجيئك بعلمك.
تَحَسَّس خوفك. قديماً، قبل أن يغدو الأيّام، كان حكاية.




• امتحانات
نقول إن السفر والقمار يمتحنان طبائع الرجال. فلنُضِف: ومَرَض الآخرين. إنه يستنفر فينا (على افتراض أننا نحن غير مرضى) العديد من القابليّات والرفضيّات الأساسيّة، بين تعاطف وأنانية. المُلْزَم معايشة المريض، حتّى لو إلزاماً مهنيّاً كالممرضات، مُساءَل في أخلاقه وشيَمه كلّ لحظة. الخطّ البياني لردود فعله يمتدّ، نظريّاً، من عطاء الذات إلى نوايا الجريمة.
يُصوَّر لنا المريض مرشَّح إشفاق أو مَصْدر إزعاج. نجهل حذافير العلاقة بين مريضٍ وسريره، بين حاله واقفاً ماشياً وحاله مستلقياً تحت رحمة الهواجس أو الأكاذيب. وقبل أن يكون امتحاناً لطبائع معاشريه هو امتحان لتوازنه.
تبدو الامتحانات بلا نهاية، منذ امتحان قدرة الطفل على الوقوف حتى امتحان قدرة الإنسان على المغادرة. والنجاح فيها هو استسلام إلى مكروه. ونشعر بفراغ لا يوصَف حين نبحث عن مسؤول نحمّله وزر هذه الامتحانات التي نجاحها فشل، فلا نجد غير هاوية تحت أقدامنا.




• «جميع أسبابنا»
«لأنني ما أكونه
حين يستعصي النوم».
■ ■ ■

«شمسٌ في لونكَ وغبارُ بنفسج.
وجهكَ قِطَعٌ من النوم العميق
لأجله أولد في الصمت
وفي الحَجَر القديم».
■ ■ ■

«تأتي
وكلّما خفيفاً ترتعش البتلة
تتمايل كوردة سرخس.
تُمسك بيدي،
كفّكَ التي تنفث الضباب.
الحنان المسترخي كثيف بلا أمل».
■ ■ ■

«يأتي الصباح
ونتحوّل حجارة».
■ ■ ■

«ولكنّكَ حين لم تأتِ
حين غيّرتَ رأيكَ
كنتُ أسمع الكلمات
خارجةً مع تيّار الهواء
داخلةً مع تيّار الهواء.
(...) كنتُ أرتدي ثوباً خفيفاً،
أطفو على الأشياء.
ولم يكن بيتاً وإنّما بيتٌ آخر...».
■ ■ ■

تهمس عناية جابر، في «جميع أسبابنا» وفي سواه لها، ما يُذيب الهمس. أيّها الداخل إلى هذه الظلال، دع خارجاً كلّ ما قرأتَه من مفاهيم منفوخة. ليس هنا، في هذه الأجواء الرقيقة، غير الدفء. لا أثر للدم السياسي. الدم، هنا، وظيفته بسيطة، وظيفة الطبيعة الرائعة: إدارة مَرْكَب الحبّ.
يكاد لا يُعيدنا إلى الحقائق، حقائق الحنان والرغبة، غير الشاعرات. الرجال منهمكون في ما لا يقدرون عليه.
وكلاهما حَسَن.




• ضباب متسلّل

صديقة العمْر تسألني بعَتَب: لمَ هذا الحزن في ما تكتب؟
أو لعلّي تخيّلتُ العتب حيث لا وجود لغير قلق المحبّة.
والجواب في كلّ حال هو الاعتذار. تبّاً للحزن.
... والاعتراف بأنها ضبابات حزن، إن جاز القول، غير مقصودة، متسلّلة. القارئ فيّ يهرب من الكتابات الحزينة فكيف أحمّلها لقارئي.
لعلّها بقايا تدليل الذات، على قبحه في الرجال بدايةً ونهاية.
بئسَ الحزن حقّاً، بالكاد في العروق محلّ
للفرح.




• هذه اللحظة

ـــــ فلنراجعْ: على مَ تأسف؟
ـــــ على ما لم أَنَلْ.
ـــــ تأسف على ما لم تكن لتحصل عليه ولا في ظرف، ولو أُنِلْتَهُ لخاب بك أو خيّبك. على مَ تأسف؟
ـــــ على ما لن أنال.
ـــــ تأسف على ما تَجْهل حظَّكَ منه: تناله فتملّه أو يُشْقيك، وإن أسعدك تأسف على ما تراه عيناكَ بَعْده وتعجز يداك عن بلوغه. على مَ تأسف؟
ـــــ على اللحظة، هذه اللحظة.
ـــــ وما مُرادكَ من لحظة؟
ـــــ أَنْ أنتظرها، أن تجيء هي المرغوبة، ولا تَمرّ.
ـــــ أن تجيء وتتحجّر؟
ـــــ لا، أن تظلّ في حالة مجيء، مجيء متدفّق، متجدّد، تغمر، تَحْمل، لا تنتهي، تدور على سحرها وتَحْفر...
ـــــ تُصدّق هذه الترّهات؟
ـــــ هي وغيرها. أعيش وإيّاك في غمــــرتها، بين بدائع التقدّم وروائع التأخّر. أنا غاصٌّ
بغبارها.
ـــــ إذاً، على مَ تأسف؟
ـــــ على قِصَر عمْر الغصّة...




• عابرات

■ لا يخلو قلبُ المعشاق من الحبّ بل من السلام.
ما من أحد يمارس الفراغ أكثر من دون جوان، أيّاً يكن اسمه. هنا، يختلط الصدق بالهذيان، والهذيان بالخطّة، وجوعُ الطفل بلارحمة الذئب. على أنَّ ما يبدو لارحمة للفاحص هو في نظر المفحوص شَغَف مُضْنٍ. لحظة واحدة من مواجهة النفس هي عنده كابوس. يلزمه الهرب الدائم نحو خياله، خارج خياله، حيث يمتلك ما سيموت فوراً تحت أسنانه ليولد عِوَضَه سرابٌ آخر.
الخفّة تَرْحَم نَفْسها.
■ قول الشيء و«الانتباه» إلى ملاقاته بقول عكسه، كغمزةِ فطْنة. احتياط من
الاعتراض.
كاتب هذه السطور غالباً ما ارتكب هذا التذاكي ـــــ تذاكٍ يكشف لدى الكاتب، فوق الحيرة، نباهة سطحيّة تلعب على الحبلين.
التورّط ـــــ يسمّونه أيضاً التطرّف ـــــ يَكثر كلّما اشتدّت السذاجة، ويتراجع حين يتقدّم الذكاء، ويختفي مع «الوجاهة».

■ أبشع من الفتور، التظاهر بالحماسة. ما أحسن البلادة في محلّها! إلّا المعشوقة حين تتظاهر بالنشوة: هنا الكذب رحمة.
للفريقين.

■ فَشَلُ رجلٍ في إمتاع امرأةٍ يَمتحن فيه القدرة على احتمال الحدود وفيها القدرة على تجاوز الحدود...

لا غبـــن هنـــاك

تعليقاً على كلمة وديّة نشرتها الصديقة جمانة حدّاد في جريدة «النهار» يجب أن أوضح أن أحداً لم يُغْفل دعوتي، لا على مستوى الدولة ولا على مستوى المؤسسات، إلى هذا المؤتمر الأدبي أو ذاك في هذا البلد أو ذاك، وأن موقفي كان دائماً (إلّا مرّتين) هو الاعتذار عن عدم المشاركة.
وحتى لا أُحمل على محمل زهدٍ لا أدّعيه أقول إن هذا الموقف منطلقه الخجل والكسل وجملة حساسيات أخرى غير عاقلة.
سبق للصديق عبده وازن أن كتب كلمة مماثلة في جريدة «الحياة». وإذ أشكر للصديقين عاطفتهما أؤكّد أنْ ليس لديّ حيال هذه الأمور، وغيرها من الجوائز والتَرْقيات، إلّا الفرح بفرحة أصحابها، ومشاعر الأخوّة والتضامن مع مَن يسافر ويلتقي ويتكلّم ويمثّل نفسه ويمثّلنا ويمثّلني، إذا شاء، أفضل ممّا كان يمكن أن أمثّل نفسي.