جان عزيز
الضغط هائل، لكن رغم ذلك لا انتخاب في الأفق. هكذا يلخّص الوضع الرئاسي، أحد الناشطين على خط عين التينة ـــــ الرابية ـــــ بكركي. فالرئيس نبيه بري حسم موقفه: لا يمكن الثنائي الشيعي ـــــ السنّي أن يختار رئيساً مارونياً. وبالتالي فسيّد ساحة النجمة أبلغ الجميع بنهائية خياره وقراره: إمّا الحصول على تغطية بكركي ـــــ الرابية، وإمّا استمرار المراوحة.
ولم يخفِ رئيس المجلس رغبته في تحريك الوضع، ومحاولة المساهمة في نسج مثل تلك التغطية. فحرّك أكثر من موفد مباشر أو وسيط في اتجاه البطريرك والجنرال، سائلاً عن الاحتمالات المرتقبة والهوامش المتاحة.
في الرابية أولاً، تبدو الصورة واضحة، وهي تستند إلى مقاربتين اثنتين، الأولى تنطلق من المبدأ والحق، والثانية من الواقع والممكن.
فوفق منطق الحق يرى العماد ميشال عون أن ميثاق العيش المشترك الذي قام عليه الكيان اللبناني، معطوفاً على النظام الديموقراطي الذي يلتزمه نظامه، يقتضيان أمرين: التنافس داخل كل جماعة، والتوافق بين الجماعات. والتنافس داخل كل جماعة أظهرته الانتخابات الأخيرة، وأعطت نتائجه الواضحة، وكرّستها بكركي نفسها. أمّا التوافق بين الجماعات، المستند إلى تلك النتائج والمؤدي إلى تكوين السلطات الدستورية، فالمعروف أنه عبر محطته الأولى بعد انتخابات رئاسة المجلس النيابي بسلام. ثم اجتاز محطته الثانية باختيار رئيس الحكومة بشبه إجماع. لكنه تعثّر وعُرقل ونُصبت له المطبات والفخاخ، حين بلوغه محطة رئاسة الجمهورية.
أمّا وفق منطق الواقع والممكن، فيرى عون أيضاً أن الأزمة القائمة تتخطى كل الاعتبارات الشخصية والفئوية. ثمّة استحقاقات خطيرة داهمة، أبرزها التوفيق بين قبول لبنان بالشرعية الدولية وبين تمسكه بحقوقه السيادية ودفاعه عنها. كما التوفيق بين تعددية الواقع المجتمعي ـــــ السياسي في لبنان، وبين الوحدة الوطنية الضامنة للسلم والسيادة معاً، والتوفيق أخيراً بين أمن المواطن والمؤسسات والوطن، وبين استمرار الدولة الضامنة للحريات العامة.
هذه المعضلات يقول عون إنه يحمل في شخصه وتاريخه وتجربته والواقع، مشروع الحل لها. لكنه يستدرك ليؤكد أن أي خيار آخر يؤمّن الحل، أو أي حل آخر يكون أفضل، لن يتردد الجنرال في تأييدهما وتزكيتهما. سأله الدبلوماسيون الذين زاروه في اليومين الماضيين، وماذا تفعل أنت بعدها، أجابهم مبتسماً: أعتزل السياسة، أو أهتم بحديقة المنزل، أو أي شيء آخر. لا تهتموا بالأمر، المهم أن تأتوني بالحل.
هكذا تبدو الصورة في الرابية جليّة. فإن اتّبعنا مقاربة الحق، أو اعتمدنا مقاربة الواقع، لا يمكن الاستحقاق الرئاسي إلاّ أن يتوقف عند محطة عون الإلزامية، تكريساً للحق، وتأميناً للحل.
تبقى بكركي. في الصرح البطريركي الماروني تبدو الصورة أكثر تشويشاً وتنازعاً وعرضة للضغوط والتجاذبات. في المبدأ يرفض البطريرك الدخول في لعبة الأسماء، كل العوامل تفرض عليه هذا الموقف، من التجربة الماضية إلى الظروف الراهنة. لكن في الواقع بات صاحب الغبطة تحت تهويل غربي صريح، عنوانه: إمّا أن تسمّي، وإمّا أن تتحمّل جزءاً من مسؤولية انزلاق البلاد نحو المجهول. وهو المجهول الذي خبره البطريرك، ويدرك أن تداعياته لن تكون إلاّ على حساب المسيحيين أولاً ولبنان برمّته ثانياً.
بين اقتناعه بالابتعاد عن تجربة التسمية ومحاولات إقناعه بتجنّب كأس الفراغ، ماذا سيفعل البطريرك؟ يقول السياسي الناشط على مثلّث عين التينة ـــــ الرابية ـــــ بكركي، إن صاحب الغبطة على ما يبدو، يميل إلى اعتماد «استراتيجية مخرج»، على مرحلتين: الأولى استمزاج آراء الأقطاب الموارنة، وهو ما بدأه أول من أمس، وينتظر أن ينجزه قبل يوم الأحد المقبل، بحيث تتكوّن لديه نتائجه ومعطياته النهائية، بعد اختتام دورة مجلس البطاركة والأساقفة الكاثوليك المنعقد حالياً. وفي المرحلة الثانية، يتّجه البطريرك نحو إعلان «عدم صلاحيته» للبتّ في المسألة المعروضة عليه، إمّا مباشرة بعدم التسمية، وإمّا مداورة عبر توسيع اللائحة التي حاول كوشنير أول من أمس وكوسران يوم أمس «التشاطر» عليه لانتزاعها منه. فيرفع عدد أسمائها إلى تسعة، بحيث تضم غالبية المطروحين، وتعيد المعضلة إلى نقطة الصفر، فلا تحسم الأمور، ولا يكون الثنائي الشيعي ـــــ السنّي قادراً على حسمها.
هل يعني ذلك أن خريطة الطريق للوصول إلى الفراغ، هي الوحيدة المنجزة حتى اللحظة؟ يؤكد السياسي نفسه الأمر، إلاّ إذا حصل غير المتوقع في الأيام القليلة الباقية. وغير المتوقع المطلوب، يلامس المعجزة. كأن يدرك الجميع أن لعبة عضّ الأصابع قد انتهى وقتها، وأن صراخ الوجع سيكون الجامع الأكبر، أو حتى الوحيد. وأن العودة إلى مقاربة الحق في الرئاسة، أو الحل عبر الرئاسة، هي الوحيدة الممكنة لتجنّب الكارثة. وأن شخصها «موجود ونص»، بدل «رئيس النصف» الذي لا يمكن أي شخص أن يزيده واحداً.