عرفات حجازي
لا أحد يملك حتى الآن تصوّراً واضحاً في شأن مسار انتخابات الرئاسة الأولى ومصيرها، فأوراق هذا الاستحقاق والتحكّم في قراره موزّعة بين اللاعبين المحليين والإقليميين والدوليين، ولم تسفر الاتصالات والمشاورات الجارية على أكثر من صعيد، التي كان ثقلها الأساسي مركّزاً في الفاتيكان عن رؤية مشتركة لمقاربة ملف الأزمة اللبنانية، بما يسمح باستخلاص مشروع حل أو تحديد سقف للتسوية، وإن كانت المواقف التي أُودعت لدى حاضرة الفاتيكان تتقاطع عند هدف واحد هو إطلاق آلية سياسية دستورية للتوافق بين اللبنانيين، والانتقال من مرحلة الحوار عن بُعد إلى مرحلة اللقاءات المباشرة، بصرف النظر عن العوامل والمؤثرات التي تتحكّم في مفاصل الاستحقاق الرئاسي وتوقيته وآلية إجرائه.
وإذا كان رئيس المجلس النيابي نبيه بري يستعجل ردّ الأكثرية على مبادرته ليبني على الشيء مقتضاه، فلأنه حريص على السعي إلى الإسراع في بلوغ الحل، وإن كان يلاحظ أن البعض يتردد ويتريّث وهذا ليس في مصلحة أي طرف لأن الرهان على الوقت سيف ذو حدين، وينبغي عدم قتله بحجة أن ثمة فسحة تمتد إلى شهرين لحسم الأمور. ويرد بري بحزم على الـ«لعم» التي تلوّح بها الأكثرية حيال مبادرته التي لا تقبل الموافقة المشروطة التي تفرغها من مضمونها الأساسي ملوّحاً بالتراجع عنها إذا استمرت المراوغة في مقاربتها، وليتحمّل عندئذٍ رافضوها مسؤولية ما قد يترتب على ذلك من نتائج. وفي جعبة الرئيس بري الكثير مما سيقوله للمرة الأولى في إطلالته التلفزيونية غداً إذا أقفلوا الطريق على مبادرته التي يرى أنّها الفرصة الأخيرة.
وإذا كان الرئيس بري يعتمد في تحصين مبادرته على الالتفاف الشعبي حولها، فإنه يعوّل على الاحتضان الدولي لها لأنها تتقاطع مع المبادرتين العربية والفرنسية، ومع ما يطرحه البطريرك الماروني نصر الله صفير من رؤى ومقترحات تركّز في مجملها على الدعوة إلى التوافق على موضوع الرئاسة وفق منطوق الدستور، وتصب في خانة الرغبة الدولية، وتحديداً الأوروبية، في إجراء الانتخابات الرئاسية ضمن المهل الدستورية، ومنع الفراغ لأنه سيدفع إلى الإخلال بنظام المصالح في المنطقة، ومن الصعب أن تضبط تداعياته ضمن حدود لبنان. لكن المشكلة أن التسوية التي تقترحها مبادرة بري تعترضها حسابات معقّدة لدى الإدارة الأميركية، التي لم تستقر على موقف نهائي من الاستحقاق واعتماد وجهة سير محددة بالنسبة إلى مستقبل لبنان بما أنها لم تتخذ قرارها في كيفية التعامل مع الملف العراقي. ولم يعد سراً الخلاف القائم بين الأميركيين والفرنسيين في معالجة الاستحقاق الرئاسي، فالأميركيون لا يعترضون على ترشيح أحد من صفوف 14 آذار لأن في ذلك ضمانة لتنفيذ القرارات الدولية والإمساك بالقرار اللبناني، فيما ترى فرنسا أن مثل هذا الاختيار، بعيداً عن التوافق، يخلّ بالتوازنات ولا يوفّر عناصر الاستقرار ويهدّد وحدة البلد. من هنا وجدت فرنسا في مبادرة بري بداية مسار سليم وجدي يستلزم دعماً داخلياً وخارجياً، فسارعت إلى إرسال وزير خارجيتها برنارد كوشنير إلى لبنان لاستمرار السعي إلى تقريب وجهات النظر والدفع باتجاه العودة إلى الحوار لبلوغ انتخابات رئاسية ناجحة بتوافق اللبنانيين. وفي رأي الفرنسيين أن مبادرة بري توفّر فرصة ثمينة يجب التقاطها وعلى فريق الموالاة أن يتعاطى معها بكل إيجابية وانفتاح، وخصوصاً أنها خلقت دينامية داخلية وجاء الترحيب العربي والدولي والمحلي ليضخّ فيها المزيد من الحيوية، لأنها غلّبت منطق الحوار على منطق التباعد والمناكفة ومثّلت حضوراً مؤثراً في اللوحة السياسية، وسيكون من مهمة كوشنير خلق مناخات مناسبة بين الأطراف تشجعهم على معاودة الحوار في المجلس النيابي للتفاهم على مخارج مريحة للاستحقاق الرئاسي، والتوافق على آلية متكاملة لإنهاء الأزمة، لأن الأطراف الخارجيين غير مهيّئين لفرض الحلول، وإن أقصى ما يستطيعونه هو تغطية الحلول وتوفير الأمان لها.
وسط هذه الأجواء يُنتظر أن تتخذ حركة المشاورات والاتصالات المحلية والإقليمية والدولية منحىً تصاعدياً مع عودة صفير من الفاتيكان، وما يحمله من خلاصات للمواقف التي تجمّعت لدى الكرسي الرسولي حول الحلول المقترحة للأزمة، والتي سيناقشها ويتداول فيها تباعاً مع كوشنير وبري، ليجري في ضوئها وضع الإطار العام الذي يمثّل الآلية التنفيذية لإجراء الاستحقاق شكلاً ومضموناً ورئيساً توافقياً، على أن يجري تظهير هذه الصورة في النداء الذي سيطلقه مجلس المطارنة قريباً.