فداء عيتاني
  • انتفاض أهل السنّة بعدما طوّعتهم الشهابيّة... وبدايات الفكر الجهادي

  • «أقرب المجموعات إلى الجهاد هي الموجودة في بلاد الرباط (سوريا، الأردن ولبنان)»، يقول الشيخ أسامة شهاب. ويبدي باحثون قناعتهم بأنه لم تمرّ في لبنان مراحل لمجاهدين فعليين، برغم كل ما حملته المراحل المختلفة من مجموعات إسلامية. فـ«المعلومات المتوافرة تقول بأن معظم المجاهدين هم لبنانيون درسوا في الخارج، وكانت لهم ارتباطات خارجية»

    شكّلت كاريزما الرئيس المصري جمال عبد الناصر مصيبة إضافية للحركات الإسلامية، وخاصة حينما وقع الخلاف بين الزعيم العروبي وبين الإخوان في مصر. كان على الإسلام أن يفرز إبداعات جديدة في تأطير الحالة السياسية ليبرر تمايزه عن زعيم بهالة عبد الناصر. يمكن فهم ما جرى بتعابير نهلة الشهال التي لا ترى الإسلام «سياسياً وغير سياسي»، فـ«الإسلام هو مثل كل الأديان يمكن أن يكون مجرد عبادة فلسفية بين الإنسان وربّه، أو يمكن أن يكون أداة للسلطة أو للقوى الطامحة للوصول إلى السلطة، ويمكنه أن يكون كأي دين آخر قوة تغيير». وهو ما ينطبق على حركة الإخوان في مصر كما سينطبق أكثر على حركات ظهرت في لبنان لاحقاً.
    وينبّه الشيخ إبراهيم الصالح إلى أن «العنوان السنّي في الذاكرة معقّد، وكذلك العنوان العروبيّ. وقد جرى التقاء بين العروبة والإسلام مقابل تناقض مسيحي ـــــ إسلامي داخلياً، وشكل صائب سلام، في حين ما، زعيماً ناصريّاً ورمزاً من الرموز لهذه الحالة الجهاديّة، وكذلك رشيد كرامي ومعروف سعد وغيرهم».
    في زمن ظهور الناصرية الأوّل بداية الخمسينيات كانت أيضاً أولى البعثات التعليمية تذهب من طرابلس إلى السعودية لتلقّي علوم الدين بحسب ما يؤرخ محمد مصطفى علوش. كما ذهب إلى المملكة ابن «أمير جماعة مسلمون» داعي الإسلام الشهال الذي تخرّج من الجامعة الإسلامية في المدينة المنوّرة عام 1984. «إلا أن ما يجب تسجيله حول الفكر السلفي في لبنان ونشأته أنه اتجه نحو «محاربة البدع» ولم يأخذ أي اتجاه جهادي في بداياته المبكرة».
    وتعتبر تلك هي المرحلة الأولى في الإسلام الجهادي، أي مرحلة عبد الناصر الأولى، وقد أتت بعدها المرحلة الثانية، حين اصطدمت الناصرية بحلفاء الأمس، مع دخولها في مراحل مدّ جماهيري في المنطقة العربية. حينها أزاحت الحركات الناصرية الحركات الإسلامية والزعامات التقليدية من الواجهة، فوقفت الناصرية ضد سلام وكرامي وغيرهما، واعتبرتهم ثغرة في العلاقة مع السلطة السياسية في لبنان، على قاعدة تساهلهم في التعامل مع المارونيّة السياسيّة، وصولاً إلى المنتصف الثاني من الستينيات من القرن الماضي، حين أصبح على الإسلام السياسي الاختيار ما بين التقاطع مع الناصرية والمقاومة الفلسطينية أو الدخول الى السجن والاضطهاد.
    أخذ الإسلام السياسي، على ندرته وهشاشته، مساراً هادئاً. وطبع هذا الهدوء خطوات الإسلاميين حتى مرحلة متقدمة، والهدوء الذي كان البعض يعتبره تشدّداً حينها، سيبدو اليوم مهادنةً واستسلاماً إذا ما قيس مثلاً بالتكفير والهجرة المصرية أو الجماعة الإسلامية المسلحة في الجزائر.
    حزب التحرير من ناحيته كان يعمل ميدانياً، إلا أنه كان بعيداً عن الفكر الجهادي، وإن كانت الطروحات العامة للحزب تتقاطع مع الجهاديين لناحية إقامة دولة الخلافة. إلا أن الحزب لم يتبنّ العنف، بل عمل وفق قواعد التربية والتوعية الإسلامية، وأحد أبرز كوادر الحزب آنذاك كان محمد البخاش.
    الشيخ تقي الدين النبهاني مرّ أيضاً في شمال لبنان. والشيخ النبهاني ولد عام 1909 وتوفي عام 1979وأسس حزب التحرير وانطلق به من مدينة القدس، وبدأ العمل عام 1953 لإعادة الخلافة الإسلامية، وعاش فترة من حياته في مدينة طرابلس وأثّر في فكر عدد من رجال العلم، منهم الشيخ عثمان الصافي الذي كان يكتب في الوضع العربي والإسلامي، وهو بدوره أثّر في توجهات الفكر الديني في مدينة طرابلس.
    إلا أن كلاً من حزب التحرير والإخوان المسلمين في لبنان بدوَا كانعكاسات مصرية أزهرية، ولم يحقق أي منهما حجماً كبيراً في الخمسينيات. وحين تطورت المعركة بين عبد الناصر والإخوان في مصر، اصطف الشارع الى جانب عبد الناصر.
    التحق العديد من الشبان في لبنان بحركة الإخوان المسلمين حين ظهورها تحت اسم عباد الرحمن، ومنهم فتحي يكن والشيخ سعيد شعبان. إلا أنهم اكتشفوا فيها حالة تعليمية، وانسحب منها كل من يكن وشعبان، وأسسا لاحقاً الجماعة الإسلامية. إلا أن الجماعة لم تتمكن من القطع مع الذهنية التربوية لعباد الرحمن، وحافظت الجماعة على هذا الطابع حتى اليوم بحسب ما يشير عدد من الباحثين والمتابعين، وأصبحت «حركة يوجد لديها سياسيون ولكن ليس لديها سياسة» بحسب أحد علماء الدين الشماليين.
    وتميّز حزب التحرير بامتلاك وعي سياسي، إلا أنّه، ولفترة طويلة، كان معطّلاً بالوجهة السياسية، كون السياسة لديه تبدأ بعد الانقلاب وتسلم السلطة، وليس قبل ذلك. ويمتلك الحزب خلفية وقواعد وتحليلاً سياسياً، لكنّه يفتقر الى آلية ممارسة سياسية، وخاصة أن السياسة لا تستقيم للحالات غير المعلنة. ومع عودة حزب التحرير الى العلن أخيراً، حافظ على تماسك أيديولوجي يكاد يمنعه من الانخراط في الحياة السياسية.
    مع بداية المقاومة الفلسطينية في أواسط الستينيات، وقف الإسلام السياسي إلى جانب فتح بقيادة ياسر عرفات (أبو عمار)، ولعبت التسمية التي حملها الرجل دوراً في الاستقطاب. فعمّار هو من الصحابة، وياسر كذلك، وأبو عمار كان الأدرى في الاستفادة من كل المعطيات، حتى لو كانت إسمية، ناهيك بالشائعة التي تعممت عن أن فتح هي جزء من حركة الإخوان المسلمين، ما أدى إلى إكساب المنظمة الكثير من التأييد رغم بعض الأضرار الجانبية.
    وظهر في أواسط الستينيات نموذج مختلف للقوى الإسلامية، حيث نظمت مجموعة من الإخوان المسلمين نفسها وحسمت خياراتها في العمل المقاوم، وتجمعت في مناطق الضفة الغربية خاصة وانطلقت منها في عمليات ضد الكيان الإسرائيلي الى داخل الأراضي الفلسطينية، بحسب ما يروي الشيخ ماهر حمود. وتمكّنت هذه المجموعة من تأسيس معسكر إسلامي تابع للإخوان.
    وحين طُرد الفلسطينيون من الأردن في أيلول الأسود، انتقلت هذه المجموعة الى لبنان، وكانت قبل انتقالها قد مرت بخلاف أدى الى فصلها عن التنظيم الرسمي للإخوان الذي لم يتبنّ التعاون مع منظمة التحرير الفلسطينية، أو إنشاء جهاز جهادي تابع أو تحت رعاية منظمة التحرير كما كانت تفعل كل الأحزاب حينها.
    وعلى الرغم من عدم موافقة التنظيم الدولي للإخوان على انخراط المجموعة الإسلامية في الجهاد إلى جانب منظمة التحرير، إلا أن أعضاء هذه المجموعة ومن وافقهم الرأي انتقلوا إلى لبنان واحتفظوا بأفكارهم، وجاهدوا وحاولوا التأثير بأفكارهم على محيطهم. ومع مجيئهم إلى لبنان أسسوا «الحركة الإسلامية المجاهدة» التي تحمل أفكار الإخوان المسلمين مع التركيز على الجانب الجهادي. ولم تكن هذه الحركة محصورة في منطقة، أو في مجموعة من الفلسطينيين، وإن كان أغلب عناصرها من الفلسطينيين. ولكنها، وخاصة بعد الاجتياح الإسرائيلي، انحصرت في مخيم عين الحلوة مع بعض الامتدادات المتفرقة.
    ويلحظ الشيخ ماهر حمود بأن «تبني الفكر الجهادي من قبل الحركة الإسلامية المجاهدة أدى الى انشقاق في الجماعة الإسلامية في ذلك الحين، وهي لم تكن تعدّ أكثر من عشرات».
    حافظ النقاش الإسلامي على الدوران حول نقطة مركزية: «توقيت وضرورة الجهاد، ومتى يحين وقت استعمال العنف».
    في تلك المرحلة، يمكن وصف حزب التحرير بأنّه حزب من أفراد قلائل ولا يمكن مقارنته بالجماعة التي مدّت جذورها بين الناس في لبنان. وكل ما لدى حزب التحرير هو معلن، ويضمر ما يظهر، ما عدا نقطة واحدة هي النصرة، التي تتلخص بنصرة من يعلن الخلافة الإسلامية ولو بانقلاب عسكري، بحسب أحد علماء الدين الذين يتابعون مسار حزب التحرير الإسلامي منذ نشأته.
    وكان التعميم السائد بأن «المنظمات الفلسطينية قومية عربية ويسارية» مجرد غشاء كاذب. وبعد حرب عام 1967 أصبحت المقاومة خياراً لدى الأمة في الحرب الشعبية ـــــ والأمة هنا بأغلبها من أهل السنة ـــــ، وكانت جهود المتدينين وغير المتدينين توجّهت بعد هزائم عبد الناصر إلى المقاومة الفلسطينية، وتوظفت بشكل طبيعي لدى أبو عمار. ولبنانياً، فإنّ ياسر عرفات والإسلام السياسي ركبا معاً في الانقلاب على الزعامة السياسية السنية من صائب سلام إلى رشيد كرامي، وخاصة مع تنامي وجهة النظر الإسلامية بأن رشيد كرامي وصائب سلام ذهبا مع الموارنة في لبنان أبعد مما يجب.
    عمل المسلمون اللبنانيون ـــــ جهادياً ـــــ مع الفلسطينيين بمواجهة إسرائيل، بينما عملت منظمة التحرير إلى جانب السنّة في لبنان ضد المسيحيين، وكان أكبر الخاسرين هو السلطة التقليدية اللبنانية الممثلة بالمسيحيين. فالحالة الفلسطينية استقطبت السنّة وأعادت استنهاضهم بعد أن تمكنت المرحلة الشهابية من ضبطهم في مصالحة سنية مسيحية تقبل بتمايز مسيحي على السنّة، ثم أتت الحرب الأهلية لتقاتل ضد «المارونية السياسية» عبر إلغاء الطائفية السياسية وإصلاح النظام اللبناني.
    أظهرت الأعوام الأولى من السبعينيات في لبنان عجزاً فكرياً وسياسياً لدى الإسلاميين، و«يمكن أن تقرأ كتاباً مثل «المسألة اللبنانية من منظور إسلامي» لفتحي يكن، فترى كم كان الطرح الإسلامي عاجزاً أمام شاب حينها مثل عصام نعمان وبرنامج الحركة الوطنية للإصلاح المرحلي» بحسب أحد علماء الدين الذين انقلبوا من الماركسية إلى الإسلام. وكان الجو الإسلامي أعجز من أن يشكل طليعة في الحركة السياسية اللبنانية، فما كان من الإسلاميين إلا الالتحاق بأبو عمار بصفته الأب الجديد لقضاياهم، بعد استحالة توافقهم مع الحركة الوطنية اللبنانية.
    ولم يكن أبو عمار جهادياً في هذا الإطار، ولكن الحالة الجهادية كانت تلتحق به. وكان عبد الناصر، ومن بعده أبو عمار، هو من عمل على العنوان الرئيسي للإسلاميّين، ألا وهو القضية الفلسطينية والقدس. أما «الأمّة العربية» فلا تحمل القوى الإسلامية شعاراً كبير بهذا المضمون.
    وأتى السادات بعدها وافترض أن كل الأوراق بيد أميركا دون الاتحاد السوفياتي، وقام بأول القرارات السياسية كانقلاب على كل سياسة عبد الناصر. فذهب الى تحسين العلاقة مع الإخوان المسلمين في مصر، في الوقت الذي كانت فيه العلاقة بين الإخوان والنظام السوري تتدهور، وأصبحت مجلة «الدعوة» التي كان يصدرها الإخوان آنذاك في مصر تحمل مواضيع قاسية ضد سوريا، ومعلومات حول الضباط والنظام ومواقع القرار في سوريا.
    كانت الأمور تتجه نحو الاسوأ في لبنان، وكانت الحركات الإسلامية منهمكة بذاتها وبتحسين شروط وجودها. وقد مارس اليسار والقوميون قمعاً فكرياً على المنظمات الإسلامية، إلا أن كل ما ظهر في لبنان في تلك المرحلة لا يخرج عن إطار الإسلام المعتدل، أما في الحرب الأهلية فإن النقاش تحوّل وتبدّل.




    العرب والتسنّن والتشيّع

    من أهم مميّزات السنة في لبنان أنهم يعتبرون أنفسهم العرب المسلمين. علماً أنه في مرحلة الصراع بين الأمين والمأمون (ابني هارون الرشيد اللذين تخاصما على السلطة بعد وفاة الرشيد في 24 آذار عام 809 ميلادية)، كانت ميزة العرب التشيّع، وميزة العرب اليوم هي التسنّن. ومن السهل لدى الجو السني اليوم سوق عناوين التشيّع والفرس والصفوية كاتهامات، والمسلم السنّي هو في هذا الجو أساساً، فمن خلق المشكلة بين السني اللبناني والنظام السوري ليس رفيق الحريري ولا مقتله، بل ياسر عرفات وأنور السادات. فأبو عمار، من خلال الصراع مع النظام السوري عام 1976، أطلق هجمات كبيرة على «النظام العلوي» كما سمّاه حينئذ، وشنّ إعلام فتح في لبنان هجوماً على النظام في سوريا. كما تورّطت فتح في تدريب الإخوان المسلمين السوريّين في لبنان خلال أزمتهم مع النظام السوري، وكان الضابط الكبير في منظمة التحرير أبو طعان أحد ضحايا هذه المسألة، فقد سلّمه أبو عمار وسجن لمدة 13 سنة، وكان هو صلة الوصل مع «الإخوان» السوريين، بحسب أحد علماء الدين الشماليين.

    العقيدة والاختيار والتعدّد

    عقائدياً أو عقلياً كعقيدة، يخضع الإسلام للتأويل، وتتحول العقيدة الى عملية اختيار لمجموعة من النصوص، حيث إن قطع اليد عقاباً على السرقة يشترط كفاية السارق، أي عدم حاجته الى السرقة، بينما هي تطبّق في بعض الدول لمجرّد السرقة. وتشير نهلة الشهال الى تنفيذ آيات من القرآن بحرفيتها، «وآيات أخرى يتم تجاهلها، وإلّا فما معنى عدم الأخذ بعين الاعتبار بآية مثل «وإذا طلّقتم النساء فبلغن أجلهن فأمسكوهن بمعروف أو سرّحوهن بمعروف ولا تمسكوهن ضراراً لتعتدوا ومن يفعل ذلك فقد ظلم نفسه» (سورة البقرة الآية 231)، أي لا تعطّلوا الطلاق فقط للإضرار بالنساء. وما هو معنى «مثنى وثلاث ورباع على أن تعدلوا ولن تعدلوا». هذه المقولة تؤسس لفهم الاختلافات الإسلامية، ولتعدّد الإسلام.




    الجزء الأول | الجزء الثاني | الجزء الثالث | الجزء الرابع | الجزء الخامس | الجزء السادس | الجزء السابع | الجزء الثامن | الجزء التاسع | الجزء العاشر | الجزء الحادى عشر | الجزء الثاني عشر | الجزء االثالث عشر | الجزء الرابع عشر