البقاع ـ نقولا أبو رجيلي
لا تزال بعض العشائر العربية المنتشرة على الأراضي اللبنانية، التي يحمل أبناؤها الجنسية اللبنانية، تعتمد على مجالس عشائرية خاصة بها، وتقاليد ورثتها عن أسلافها، لمعالجة مشاكلها على مختلف أنواعها. وفي كثير من الأحيان تتم المصالحات من دون اللجوء إلى القانون اللبناني

رغم اندماج العشائر العربية في المجتمع اللبناني، حافظ عدد منها على التقاليد والعادات الموروثة جيلاً بعد آخر، ومن بينها إنشاء «مجلس عشائري» تناط به مسؤولية متابعة جميع المشاكل والخلافات التي تطرأ من حين لآخر بين أبناء العشيرة الواحدة، أو العشائر المختلفة وحلها.
وعادة ما يُختار شيخ المجلس بعد التشاور بين أبناء العشيرة، لتعيين شخص يتمتع بالمواصفات المطلوبة: السمعة الطيبة، الذكاء، الفطنة، الكرم، الرجولة، سعة الصدر، سرعة البديهة، الشخصية القوية، ويسر الحال؛ وليس من الضروري أن يكون شيخ المجلس ثرياً أو ابن عائلة كبيرة، كما يوضح الشيخ ناصر الرحال (55عاماً) من عشيرة عرب الحروك. يعاون شيخَ المجلس أعضاءٌ يمثلون عائلات العشيرة وأفخاذها، ويتمتعون بمواصفات الشيخ نفسها، شرط أن يكونوا مرضياً عنهم من أبناء عائلاتهم. ويكون أعضاء المجلس ملزمين بتنفيذ القرارات التي تصدر للفصل بين المتخاصمين في الأمور التي تتم تسويتها عشائرياً، وذلك بعد الاعتماد على «الشرع» أو الرجوع إلى إلى رأي «العارفة». و«العارفة» هو الشخص الذي يعيّنه المجلس، ويكون عادةً أحد أعضائه، ويُحتكم إليه لإصدار القرار النهائي، بعد موافقة المتخاصمين والمجلس عليه بالإجماع. كما يمكن تعيين «العارفة» بالوراثة، شرط أن تتوافر فيه شروط «التجرد والموضوعية والحفاظ على الثقة التي منحت له، وعدم الانحياز بأحكامه لأي طرف، حتى لو كان مقرباً منه».
يشار إلى أن من أعراف المجلس العشائري عدم السماح لأي من أعضاء المجلس بحضور المناقشات المتعلّقة بخلاف يخص أحد أقاربه أو أنسبائه، شاكياً كان أو مشكوّ منه، إلا حين استدعائه لإبلاغه نتيجة ما توصل إليه المجتمعون.
وعن طبيعة عمل المجلس العشائري وصلاحياته، شرح الرحال الذي عرّف عن نفسه بأنه «عارفة»، أن مهمات المجلس لا تنحصر بالخلافات الداخلية للعشيرة الواحدة، بل هناك تعاون مع مجالس العشائر الأخرى، لتذليل جميع العقبات للوصول إلى حلول مناسبة ترضي الأطراف المتخاصمة، «في أي خلاف، مادياً كان أو معنوياً». وأضاف الرحال: أما المشاكل التي تتعلق بأشخاص من غير أبناء العشائر فتُبَت لدى المحاكم المدنية، إذا رفض الأول القبول بأحكام «الشرع». وهنا يخضع الطرفان للقوانين المدنية اللبنانية. وبحسب رأيه لا تتعارض أحكام المجالس العشائرية مع القوانين المدنية اللبنانية التي تراعي أحياناً بعض الحلول التي يعتمدها «الشرع»، مثل حالات الثأر والشرف. ويتضمّن الشرع أحكام الشريعة الإسلامية إضافة إلى الأعراف العشائرية والعادات والتقاليد الموروثة عن الأجداد.
أما القضايا التي يعالجها المجلس العشائري فعدّدها الشيخ وليد الفياض أحد مشايخ عشيرة عرب الحروك: الثأر، جرائم الشرف، التعدي على الأملاك الخاصة، الخلافات المادية (أراضٍ ومواشٍ)، الخلافات التي تحصل جراء الزواج على طريقة «الخطيفة» والخلافات الأخرى على أنواعها. ونفى الفيّاض ما يردده البعض من أن الشيخ وأعضاء المجلس يتقاضون أي أجر مقابل عملهم، لا بل يضطر هؤلا أحياناً لدفع مبالغ مالية من أموالهم الخاصة لإقامة الولائم لإتمام المصالحات الداخلية والخارجية. وأضاف أن أبناء العشيرة كانوا سابقاً يتعاونون على جمع الأموال، فيقدّم كل منهم ما يسمونه «العونة»، وذلك بحسب إمكاناته المادية، لتأمين مصاريف المجالس العشائرية. كما أنه، جرياً على العادة، لا تزال معظم العشائر تعتمد على أبنائها لجمع الأموال، كل بحسب إمكاناته، وفقاً لطريقة يسمونها «الفريعة»، من أجل دفعها للجهة المتضررة، «من دون تذمّر أو شكوى من أحد»، كما يؤكّد الفياض: ما حدا بيرفض المشاركة لأنه عاجلاً أو آجلاً سيأتي دوره وتكون لديه مشكلة بحاجة لحلها بالطريقة نفسها.
ولفت ابن أحد العشائر العربية الشيخ شريف الحسن (55 عاماً)، إلى أن هناك قواعد كان يعتمدها المجلس العشائري سابقاً، ويتم حالياً الأخذ بها بالنسبة إلى القتل والثأر ومنها إذا نكث أحد الأطراف بوعد قطعه على نفسه بمسامحة خصمه بعد إتمام المصالحة يُعَدُّ معتدياً ويغرم ومحرضه على القتل بمضاعفة «الدية» أي المبلغ المالي الذي حدده المجلس لحل المشكلة ويحاسب على كل «فشخة» قطعها للقيام بجريمته. وأشار الحسن إلى أن هذه الحالة تتطابق مع الأحكام المدنية التي تعاقب المذنب وكل متدخل ومحرض بالقتل العمد عن سابق تصوّر وتصميم. أما بالنسبة إلى من يقدم على خطف فتاة بقصد الزواج بالقوة وبعدم رضاها فيغرّم بدفع مهرها وتعاد إلى أهلها ويُنفى خارج البلدة لفترة زمنية يحددها المجلس، إذ يُعَدُّ فعله هذا استخفافاً بكرامة أهلها.
ولفت الحسن إلى أن بعض المحاكم المدنية اللبنانية تراعي خصوصيات العشائر العربية، وتصدر أحكامها وفقاً لما تقتضيه الظروف التي ترافق بعض القضايا، وتأخذ بعين الاعتبار الحلول التي تتوصل إليها تلك العشائر بأساليبها الخاصة، بما لا يتعارض مع الأحكام القضائية التي تصون هيبة القانون والدولة وتضمن الحقوق الشخصية والعامة. وأعطى مثلاً على ذلك تعاطي المحاكم اللبنانية مع موضوع المصالحة التي يحقّقها مجلس عشائري بعد جريمة قتل.
بالمقابل، كان لرفعت النمر، ابن إحدى العشائر العربية (40 عاماً)، رأي بموضوع المجالس العشائرية و«الشرع» المعتمد قانوناً. فرغم موافقته على بعض الأساليب العشائرية لحل النزاعات، إلا أنه تمنى على العشائر «الخروج من العقلية القبلية التي لا تزال تتحكم بعقول الكثيرين. لقد آن الأوان لتربية أولادنا على أسس مدنية حضارية تؤمن لهم حياةً أفضل وتنسيهم العادات السيئة، مع المحافظة على التقاليد الجيدة التي تربطهم بجذورهم العربية، مثل الكرم والشهامة وإغاثة الملهوف وغيرها من العادات التي يتمتّع بها العربي الأصيل». وأضاف النمر: «نحن لسنا أفضل من ملايين الناس الذين يلجأون إلى القوانين والمحاكم المدنية لحفظ حقوقهم، ويجب عدم إقحام أولادنا بالأخذ بالثأر أو حقنهم بالأحقاد التي تنتقل من جيل إلى آخر».
وتجدر الإشارة إلى أن المجالس العشائرية لم تعد دائمة كما كانت عليه الحال سابقاً. فالعشائر تعتمد اليوم على إقامة مجلس بحسب طبيعة الخلافات التي تحصل. وأكثر ما تهتم به هذه المجالس حالياً هو جرائم القتل والثأر والخطف بقصد الزواج وبعض الأمور التي قد تؤدي إلى تفاقم الخلافات.