جان عزيز
هاجسان اثنان يسكنان الجانب المسيحي من المعارضة هذه الأيام، وسط الأجواء السياسية العامة التي تواكب الاستحقاق الرئاسي المقبل.
الأول هو الاعتقاد الذي يسود هذا الجانب بأن ثمّة في السلطة، ومن ضمن مكوّناتها الرئيسية، مَن يراهن على حرب إقليمية مؤكد حصولها، ووشيكة في توقيت هذا الحصول. وتكشف أوساط قريبة من مسيحيي السلطة، ومتابعة للحركة اللبنانية في واشنطن، أن اللوبي اللبناني الموالي في العاصمة الأميركية بات يضخّ لفريق السلطة في بيروت معلومات يومية وتأكيدات وتطمينات، مفادها أن الحرب في الجوار اللبناني باتت محتّمة، وأن الضربة ستكون شاملة وكبيرة، وأن أرضها ستمتد من إيران وسوريا وصولاً إلى الأطراف اللبنانية. وتشير هذه الأوساط إلى أن مصادر هذه المعلومات معروفة، وهي في غالبيتها مستقاة من المصادر المفتوحة، من إعلام وسياسة ومؤثرين في الرأي العام أو في صناعة القرار في واشنطن. وتشكل هذه المصادر في مجموعها نوعاً من صورة التمهيد لإعلان الحرب في المنطقة، وخصوصاً في الموضوع السوري، بدليل تواتر إشارات التصعيد ضد دمشق، من صفقة الصواريخ الروسية إلى رواية التسليح الكوري الشمالي، إلى الصيغة الأخيرة نقلاً عن «تايمز ماغازين» بشأن مزاعم ضبط مواد نووية في الغارة التي لم يتأكد إذا ما كانت إسرائيل قد شنتها على الشمال السوري في 6 أيلول الجاري. وحالة التصعيد في الروايات الصحافية، ترافقت مع موجة لافتة من كلام المسؤولين الأميركيين المماثل، وآخره ما يشبه التهديد الذي أطلقه جون بولتون أول من أمس في صحيفة «وول ستريت جورنال»، تحت عنوان «سوريا انضمت إلى محور الشر»، في استعادة آنيّة ومستقبلية لافتة لمقولة جورج بوش حول الرؤية الأميركية للعالم.
وترى الأوساط المتابعة لحركة المعارضة المسيحية في لبنان، أن التأثير الممكن لهذه الأجواء الدولية والإقليمية على الوضع في بيروت، كان يمكن أن يظل ضمن أطر مقبولة ومعزولة، لو لم يترافق منذ مدة مع مواقف لبنانية مندرجة في سياقه، وبالتالي مرتبطة برهاناته وترقّباته وإرهاصاته. وترى هذه الأوساط، أنها ليست مصادفة أن تُعلَن زيارات منتظرة لبعض أركان الموالاة لواشنطن، في شكل متزامن مع هذه الأجواء. والأهم أنه ليس مصادفة أن يترافق الكلام التصعيدي الخارجي مع مواقف مماثلة داخلياً، كحديث سعد الدين الحريري إلى شبكة «فوكس نيوز» الأميركية قبل يومين عن تغيير النظام السوري كما حصل مع صدام حسين، والحديث المماثل لوليد جنبلاط إلى «الرأي» الكويتية قبل أيام.
ماذا تعني هذه القراءة في ميزان الاستحقاق الرئاسي اللبناني؟ الأوساط القريبة من المعارضة المسيحية تبدي خشيتها وقلقها من أن يصير رهان بعض السلطة على الحرب الإقليمية أمراً محسوماً ومحتوماً. وأن تكون الترجمة العملية لهذا الرهان رفضاً لمبدأ التوافق على إنجاز الاستحقاق ونسفاً لقاعدة الثلثين كنصاب دستوري ضروري لعقد أي جلسة نيابية لانتخاب رئيس جديد. وتنقل هذه الأوساط ريبة المعارضة المسيحية من أن يعمد أصحاب هذا الرهان إلى تقطيع الوقت والوصول إلى 24 تشرين الثاني من دون رئيس، ليصار بعد هذا التاريخ إلى إدارة الفراغ الدستوري بالممكن من وسائل الاستيعاب، في انتظار انطلاق الرصاصة الأولى للحرب المُراهَن عليها. عندها يقدم أصحاب هذا التفكير على خطوتهم الثانية، وإعلان تسميتهم رئيساً خلافاً للدستور، وبدعم دولي، ومحاولة الاستقواء بالحرب الخارجية لكسر الموازين الداخلية.
إنها صورة معكوسة لحدث 13 تشرين الأول 1990، يقول المتابعون لهذه الحركة. يومها تحالفت واشنطن مع دمشق، فأعطت الضوء الأخضر لجحافل الأخيرة لتضرب القرار اللبناني المستقل. اليوم قد تتحارب الأولى مع الثانية، فيعتقد البعض أن ثمة ضوءاً أخضر معاكساً ممكناً أو متاحاً، لضرب خاصرةٍ سوريةٍ ما، انطلاقاً من الواقع اللبناني، وعلى حساب توازنات هذا الواقع.
ولأن الصورة تذكّر إلى حد ما بالسياق الإقليمي والدولي الذي رافق فرض «الطائف السوري» كما سمّي بعد اغتيال رينيه معوض، تكشف الأوساط نفسها أن الهاجس الثاني الذي تعيشه المعارضة المسيحية، هو أن يتمكن أصحاب الرهانات المذكورة من النفاذ مرة أخرى، عبر المسافة السياسية القائمة بين المرجعيتين الروحية والسياسية للمسيحيين، أي بين بكركي والرابية. وإذا كانت التجربة التاريخية موضع نقاش لم يحسم حتى اللحظة، فإن التجارب الراهنة تقتضي بحسب الأوساط نفسها، التنبّه والتيقّظ، وخصوصاً بعد المواقف المسجلة على هامش موعد 25 أيلول في المجلس النيابي. ذلك أن السيل اللافت من تصاريح أهل السلطة، حول الربط بين حضور نوابهم إلى المجلس ومضمون النداء الأخير لمجلس المطارنة الموارنة، ولّد هذا الانطباع بأن هناك مَن يحاول تكرار اللعبة الوسخة، بالتحايل على المواقع المسيحية، لتحييد بعضها تمهيداً لضرب البعض الآخر، قبل الارتداد على مَن كان قد حُيّد، تماماً كما حصل طوال عقد ونصف عقد من خطاب الطبقة السياسية نفسها، يوم كانت تضرب بسيف الوصاية السورية عنق السيادة والميثاق والحريات في آن واحد.
في بكركي أمس، قيل إن هذا الكلام كان حاضراً، بكل تفاصيله وأمثلته ودروسه وعبره. وقيل إن الخلاصة كانت واضحة: يُسمعوننا الكلام المعسول فقط، أما النتائج الفعلية فقد خبرناها طويلاً.