نقولا ناصيف
وضع مجلس الأساقفة الموارنة أمس السقف الذي يرفض طرفا النزاع في انتخابات المتن التزامه. والموقف المقتضب الذي اتخذه المجلس برئاسة البطريرك مار نصر الله بطرس صفير جعل الديمان على مسافة متساوية من الرئيسين أمين الجميل وميشال عون. وعبّر ذلك ـــــ حتى الآن على الأقل ـــــ عن إحجام الكنيسة المارونية عن الاضطلاع بأي دور مباشر في نزاع الزعيمين، يفضي إلى إرغامهما على التقيّد بتسوية متوازنة ومتكافئة. والأصح أن موقف مجلس الأساقفة الموارنة من انتخابات المتن أعطى كلّاً من الجميل وعون ما يريدانه في الظاهر للتوصّل إلى تسوية، في حين أنهما لا يرغبان في مثل هذا المخرج، بل يقرعان طبول الحرب.
والواضح أن ما تضمّنه بيان الديمان البارحة مثّل الحل الذي كان قد جرى تداوله، مساء الثلاثاء، عشية اجتماع الأساقفة الموارنة، بأن يخرج الجميل وعون من المواجهة الانتخابية وينسحب المرشحان ويُحفظ المقعد الشاغر في المتن لآل الجميل وحزب الكتائب في أول مناسبة يمكن فيها إجراء الانتخاب الفرعي، على أن يقترن مرسوم الدعوة إلى الانتخاب الفرعي بتوقيع رئيس الجمهورية. وتبعاً لهذه المعادلة أتى بيان الديمان ليؤكد تبنيه ضمناً المناداة بإجراء انتخاب فرعي وفق القواعد الموضوعة في الدستور، والمقصود بذلك إصدار مرسوم مستوفي الأصول القانونية في دعوة الهيئات الناخبة، أي توقيع رئيس الجمهورية عليه. وأن يأخذ الانتخاب الفرعي في الحسبان التقاليد المألوفة، أي ترك المقعد لآل الجميل وحزب الكتائب تزكية، أخذاً بسوابق قديمة خبرها اللبنانيون منذ الخمسينات، بعضها أفلح عندما خلف تزكية رشاد عازار شقيقه النائب الراحل ابراهيم عازار (والد النائب سمير عازار) عام 1950، وخلف كامل الأسعد والده الرئيس أحمد الأسعد عام 1961، وميرنا البستاني والدها النائب الراحل إميل البستاني عام 1963، وطوني فرنجية والده الرئيس الجديد للجمهورية سليمان فرنجية عام 1970. وعندما أخفقت تجربة «التقاليد المألوفة» مع نهاد جرمانوس التي خسرت في مواجهة ريمون إده خلافة زوجها النائب الراحل أنطون سعيد عام 1965.
على أنه ليس هذا ما يريده الجميل وعون من حلّ يجنبهما معركة انتخابية قاسية، ستستنزفهما نتائجها اللاحقة مقدار تأثرهما بخوضها في الشارع المتني، كما في مجمل الوضع الداخلي وتوازن القوى:
ـــــ يريد الجميل تسوية تحفظ المقعد لبيته وحزبه ما دام قد شغر باستشهاد نجله النائب والوزير بيار الجميل. ودلالة الشهادة كافية كي ترمز إلى مغزى بقاء المقعد في البيت والحزب اللذين دفعا ثمن موقعيهما السياسي. وهو يطلب تسوية تقضي بانسحاب المرشح المنافس وتزكية ترشيحه هو واستعادة المقعد، لا إلغاء الانتخاب الفرعي.
ـــــ ويريد عون تسوية تعوّض موافقته على سحب مرشحه من المواجهة وتأجيل الانتخاب الفرعي إلى وقت لاحق، وإن بحفظ المقعد لآل الجميل وحزب الكتائب، شرط أن يُعزى تأجيل الانتخاب الفرعي إلى عدم استيفاء مرسوم دعوة الهيئات الناخبة الأصول القانونية، أي توقيع الرئيس إميل لحود عليه، ما دام العماد يرى أن المرسوم غير قانوني وينتهك صلاحيات رئيس الجمهورية.
وهكذا يطرح كل من الطرفين شرطاً تعجيزياً على الآخر لا يتصل بآلية الانتخاب الفرعي فحسب، بل أيضاً ببعد سياسي يرتبط بموقع كل من الزعيمين المارونيين في المعادلة الداخلية. وهو ما تعنيه استحالة توافقهما على ما لمّح إليه بيان الأساقفة الموارنة أمس أيضاً: «القواعد الموضوعة في الدستور» التي تعني حصراً ضرورة توقيع رئيس الجمهورية على مرسوم الدعوة. وفي واقع الأمر فإن الجميل وعون ينظران بتناقض كامل إلى موقفيهما من هذا البند الذي شكّل ـــــ وسيظلّ ـــــ العقدة الكأداء لإبرام تفاهم بين الرجلين على مخرج للانتخاب الفرعي في المتن.
ويقترن هذا التناقض بالمعطيات الآتية:
1 ـــــ يفصل الرئيس السابق للجمهورية بين الجدل الدائر حول قانونية مرسوم دعوة الهيئات الناخبة، وتفهّم الحاجة السياسية والشعبية إلى إجراء انتخاب فرعي يتوخى الردّ على قتلة نجله واستهداف قوى 14 آذار بغية تخويفها وإرهابها وحملها على تقديم تنازلات سياسية مكلفة إلى الفريق الآخر.
2 ـــــ ليس في وسع الجميل، ولا حلفائه في قوى 14 آذار، التسليم بصحة وجود خطأ قانوني يشوب مرسوم دعوة الهيئات الناخبة، وتالياً تأجيل الانتخاب الفرعي لافتقار المرسوم إلى توقيع رئيس الجمهورية. وينطبق هذا التفسير عندئذ على الانتخاب الفرعي في المتن كما في الدائرة الثانية من بيروت. ويكمن رفض هذا التبرير في أن التسليم بمثل هذا الخطأ يتجاوز المرسوم إلى الطعن بكل قرارات السلطة التنفيذية، وصولاً إلى التشكيك بشرعية حكومة الرئيس فؤاد السنيورة التي تشكّل المرتكز القوي لكل حركة قوى 14 آذار. وتشكيك كهذا يربك السنيورة مقدار إرباكه فاعلية قوى الغالبية وشرعيتها التمثيلية وجديّة مقدرتها على الإمساك بالحكم أمام المجتمعين العربي والدولي، وإظهارها عاجزة حتى عن تبرير إجراءاتها وخياراتها. لذا لن يقبل الجميل ولا حلفاؤه حلاً يوسّع نطاق تراجع قوى 14 آذار، بعد تفكك الأكثرية المطلقة في الملف الرئاسي، والإخلال بتوازن القوى القائم بالطعن بشرعية الحكومة الحالية.
3 ـــــ يجسّد المخرج الذي يرفضه الجميل، وهو الربط بين إبطال المرسوم وتأجيل الانتخاب الفرعي، الحل المثالي لعون الذي ينظر إلى مآل المقعد الشاغر على أنه هدف ثانوي لكونه لا يزال يحتفظ بسبعة من المقاعد الثمانية في المتن، وفي أبسط الأحوال إذا سلّم بتسوية ما يستعيد الموقف نفسه الذي اتخذه في انتخابات 2005 بأن ترك المقعد شاغراً كي يحل فيه الجميل الابن، ويترك الآن للجميل الأب الحلول في مقعد نجله الراحل. إلا أن فوز الرئيس السابق بالمقعد في انتخابات قاسية لا يفقد عون بالضرورة شعبيته، ولا يجزم بالضرورة ذاتها أنه لا يزال يمثّل الشعبية نفسها، شأنه شأن أي فريق سياسي آخر في الغالبية والمعارضة ـــــ أياً يكن ـــــ خاض انتخابات 2005 تحت وطأة مشاعر الاستفزاز والغضب والخوف والتهديد المتبادل وردّ الفعل والتعصّب والنعرات المذهبية. ولم يعد في وسعه الآن الزعم أنه لا يزال يَنْعم بالشعبية نفسها.
4 ـــــ قياساً بذلك، فإن النتائج السياسية للانتخاب الفرعي ـــــ وقد بات ذهاب الزعيمين المارونيين إلى المواجهة شبه مؤكد ـــــ تتخطى النتائج المعلنة له. سيخرج من المرشحين المتنافسين فائز واحد. وبمقدار ما تسفر خسارة مرشح عون عن طعن سياسي في نسبة الشعبية التي جهر بها في السنتين المنصرمتين، لا كل الشعبية، فإن وقع خسارة الجميل ـــــ الرئيس السابق للجمهورية والرئيس الأعلى لحزب الكتائب ورأس عائلة الجميل ـــــ سيكون أكثر وطأة على دوره في المرحلة المقبلة، كما على مسار قوى 14 آذار كذلك.