كانت المرة الأولى التي تصرّ فيها السيدة إسعاف صباغ على عدم مرافقة زوجها إلى بيروت مفضّلة البقاء في قريتها مركبا مع خادمتها السريلانكية الجنسية فاظمية. في اليوم التالي وقعت عملية الأسر وبقيت مصرّة على البقاء مشاركة الأهالي توزيع الحلوى احتفاءً... إلى أن سجنت في القرية 12 يوماً فكتبت تفاصيلها في يومياتها التي ننشر مختارات منها لضيق المساحة:
***

(...) عند الساعة الرابعة عصر 12 تموز قررت الذهاب إلى منزل أخي أبو نضال الكائن في وسط البلدة كي لا أنام وحدي في البيت. فوجئ بي وعلا صوته «شو بعدك عم تعملي هون؟ لو جئت قبل ساعة كنت أرسلتك مع ابن جيراننا، سيارته فارغة»...
قلت «إنهم يفشّون خلقهم، ماذا سيفعلون يعني؟ غداً تعود الأمور إلى ما كانت
عليه».
سخر مني ومشى حاملاً مذياعاً صغيراً كسر اللاقط الخاص به فوضع له شريطاً معدنياً ليلتقط الذبذبات. لحقت به وجلسنا تحت السنديانة القديمة نقلّب المحطات. الأخبار توحي بأن العدوّ ينوي التصعيد.
شعرت عند الغروب بأننا فعلاً أصبحنا في قلب المعركة. جلست فاظمية على كنبة صغيرة ضامّة رجليها إلى صدرها حاضنة رأسها بين يديها. سمعت صوت بكائها. انفطر قلبي حزناً عليها. هدّأت من روعها زاعمة أن القصف بعيد ونحن لا علاقة لنا بما
يحصل.
هدأت قليلاً رغم ارتعادها مع كل صوت كان يصدر من انفجار أو رصاص حتى كدت أشعر بأنها ستموت خوفاً.
رحت أحدّث نفسي: ما ذنبها هذه المسكينة حتى تأتي من فقـــــرها وبؤسها لتموت هنا؟ كرمى 100 دولار؟ ظلم ما بعده ظلم... ليتني لم أبق... ليتني أرسلتها مع زوجي... عذبتنـــــي هذه الأفكار طيلة الحرب، وبعد أن كانت هي التي تشرف على راحتنا أصبح همّي وهمّ أخي وزوجته أن نريحها ونطمئنها..
***

في اليوم التالي اجتمعت الجارات ورحنا نتداول أخبار القصف. قالت أم عبد الله: «يا جماعة ما في شي... قبل الفجر ذهبت أنا وأبو عبد الله ع الحمارة وقطفنا الدخان، ثم قطفت بندورة وخيار من الصحرا...».
ـــــ يا مجنونة؟ ألا تخشين أن يشكوا بكما؟
ـــــ شو جديدة علينا هالحالة؟ عندما كانوا هنا كنا نروح ونجي، بعدين عندي 20 نفس بالبيت والصحرا نازلة ع امها... قولوا الله يا جماعة، الواحد هو بخوّف
حالو...
***

(..) في الصباح صحوت على صوت امرأة تحمل طفلاً وتجرّ الآخر. «الله يخليك يا أبو نضال... راح الصبي بين يديّ حرارته أربعين... ما عندي دوا.. دبّرني..».
أبو نضال ليس طبيباً لكنه اكتسب خبرة طويلة جراء سنوات الاحتلال ما جعله طبيب القرية الموثوق بشيبها وشبابها.
وكان أصدقاؤه يؤمنون له ما يتيسر عندهم من الأدوية للحالات الطارئة. غادرت المرأة وجاءت أخرى... أطفال، عجّز مرضى قلب وسكري... ضغط.
الحاجة أم عبد الله تناديني. ابنتك على الهاتف(...). عندما عدت إلى المنزل وجدت ما لا يقلّ عن عشرة أشخاص بين رجل وامرأة يسألون عن أدوية. من بينهم رجل دين نظرت إليه ضاحكة: أين العمامة يا شيخ؟ أنت الآن نصف شيخ. انفجر ضاحكاً: شو بعد بدا مرجلة؟ الـ«أم ك» في الجوّ ونحن مستهدفون.
وصل أحد شباب المقاومة يسأل عن دواء. صرخ به الجميع: لوين جايي؟ الله معك... ضحك وطمأنهم. جلس يحتسي القهوة وقال «الجد بعد ما بلّش... عم نمزح معهم.. قولوا الله. نحن بوجودكم لا نخشى شيئاً...».
«لكننا نحن من يخشى بوجودك» أجبته ضاحكة.
***

أطلّ الصباح... زحفنا من مخابئنا. كلّ واحد يروي للآخر كيف قضى ليلته. فقد أمطرت السماء قذائف... وحدها المسكينة فاظمية بقيت في فراشها.. فهي لا تقوى على النهوض. سألتني «متى إلى بيروت؟».
كانت تسأل عن كلّ صوت: هيدا من وين. مقاومة أو إسرائيل؟ ليش إنتو ما بتحبو إسرائيل؟ خلص هيي قوية ليش انتو بدو يموت؟
حاولت أن أشرح لها... قالت لي بعد طول شرح: «خلص... هلق في بيت وفي ضيعة... خلص حرب...».
«الله يخليك خليني بهمي... اللي بيفهموا عليّ عم أعمل مشاكل معن... ادعي الله أن يحمي المقاومة والسيد...». قالت «لا. لن أدعو له أنا بدي روح ع سريلانكا...». عندما كنا في بيروت كانت تحبه وكانت كلما رأته على الشاشة تهرول تخبرني: في سيّد حسن...
***

وصلت كمية من حليب الأطفال وبعض الأدوية من صيدلية العديسة أمّنها رئيس البلدية. علم الأهالي بالخبر فكانت تظاهرة الامهات أمام بيت أبي نضال. حامت الـ«أم ك» في المكان ما جعلنا نحمل الأدوية إلى مكان حسبناه أكثر أمناً وراح أبو نضال يوزع الأدوية حسب الضرورة.
بعيد الظهر استهدفت الحارة. ثمانية صواريخ استهدفت بيوتاً مليئة بالسكان علقت بين الأعمدة وزوايا الغرف لكنها لم تنفجر.
عندما هدأ القصف قليلاً، جاء من يناديني: «ابنك سيتصل بعد عشر دقائق من أميركا».
كان عليّ أن أقطع مسافة لأصل إلى مكان المكالمة. استعدت قدرتي على الركض كما لو كنت في العشرين. الأهالي في الدكان يسألون عن أضرار القذائف. رنّ الهاتف أسرعت بلهفة:
ـــــ آلو.. ماما حبيبي أنا بخير.
ـــــ حبيبتي ماما أنا ما عم نام الليل، أجابني بصوت متقطع أدركت أنه يبكي. قلت: «ماما حبيبي نحن هنا بخير ومعنوياتنا عالية جداً لا تصدق الأخبار».
ضجّ الجالسون في الدكان بالضحك: «قال ما تصدّق الأخبار قال... يا عمي أخبريه لكي يعرف ما يحصل. يسواه ما يسوانا...».
عدت إلى المنزل مسرعة. كانت الـ«ام ك» تحوم وقبل أن أصل إلى البيت بعشرات الأمتار التقيت أخي الذي أمرني أن أسير بجانب الحائط ومشى هو بموازاة الحائط المقابل. فجأة سمعنا دويّ صاروخ يتجه صوبنا.
«انبطحي أرضاً» قال أخي وقبل أن يكمل كلامه كنا نحن الاثنين نحتضن الأرض. سقط الصاروخ قريباً منا. انتظرنا لحظات لنسمع صوت الانفجار... «لم ينفجر، هيا أسرعي». قال لي وركضنا إلى المنزل بسرعة البرق. التحقنا بالموجودين الذين انفرجت أساريرهم عندما دخلنا.
***

(...) إنه اليوم الثالث عشر... يوم هادئ نسبياً سمح للأهالي بتفقد بعضهم بعضاً وسرد أخبار قصف الطائرات للسيارات المدنية. دار نقاش حول أيّ الأمرين أكثر خطراً: البقاء في القرية أو المغادرة. قال أبو نضال: لو معي سيارة كنت مشيت... بدها عزيمة يا شباب... كرمى لهؤلاء الأطفال... إذا جرح أحدهم ماذا تفعلون؟
تحمّس عدد من أصحاب السيارات وراحوا يعدون العدة للانطلاق معاً في موكب واحد. عند الرابعة عصراً اكتمل موكب من ست سيارات. رفعوا الرايات البيضاء، قرأوا ما حفظت ذاكرتهم من أدعية. وكان أحمد (أبو علي) في طليعة موكب السيارات. بدأ القصف على أطراف القرية فراحوا يصيحون: هيا انطلقوا، فيما نصح البعض الآخر بالتروي.
سارع أحمد في الانطلاق ظناً منه أن الآخرين خلفنا... كنت وأمه وجارتها والمسكينة فاظمية معه. في الطريق إلى العديسة نظرت خلفي فلم أر أحدا:ً أين هم؟ هل غيروا رأيهم؟
ارتعدت أم ناجي خوفاً على ابنها. هي تقول له: «الله يرضى عليك يا أمي انتظرهم...». وأنا أجيب: «لا، لا تتوقف فنحن نسير بموازاة العدو والمروحيات تواكبنا إذا توقفنا فسيقصفوننا فوراً».
في ساحة العديسة انتظرنا 5 دقائق أملاً أن يلحق بنا أحد من دون جدوى. قرّرنا أن نكمل نحو مرجعيون، من هناك نسأل عن الطريق التي يجب علينا سلوكها إلى بيروت.
هناك أرشدنا مراسل صحافي إلى طريق البقاع الغربي. مجدداً لاحقتنا الـ«أم ك»، بقينا ندعو الله ونتلو القرآن ولم يهدأ روعنا إلا رؤيتنا سيارة من بعيد يقف ركابها على الطريق. تبيّن أن السيارة مقلوبة وقد ذهب سائقها يبحث عمن يساعده في سحبها.
لم نستطع مساعدتهم، وطلبوا منا أن نكمل «حتى ما نروح كلنا سوا». لم يكن أمامنا حلّ آخر خصوصاً أننا لا نستطيع المساعدة وأكملنا باتجاه بيروت....