نقولا ناصيف
أدخل الرئيس أمين الجميل وحلفاؤه في قوى 14 آذار والرئيس ميشال عون نتائج الانتخاب الفرعي في المتن في الاستحقاق الرئاسي، وأضحت القراءات والاستنتاجات السياسية المتناقضة لهذه النتائج تبريراً لهذا الفريق أو ذاك كي يوجّه الانتخابات الرئاسية في المنحى الذي يريده له. بينهما يقف الرئيس نبيه بري، أكثر المعنيين بالاستحقاق تبعاً للصلاحية المنصوص عليها في المادة 73 من الدستور. وهو يشترك معهما في تفسير النتائج المباشرة للانتخاب الفرعي، ويفترق عنهما في الخلاصة. وكما يتصرّف الجميل وحلفاؤه وعون على أنهم أبطال مفترضون للاستحقاق الرئاسي، ينظر رئيس المجلس إلى دوره فيه على أنه مديره، بحيث يحرص على اشتراك الأفرقاء جميعاً في إمراره وفق الآلية الدستورية ونصاب الثلثين، لكن دونما استئثار أحدهما بقراره أو فرض شروطه عليه.
لكن ليس هذا واقع توزّع القوى واجتهاداتها في الاستفادة من نتائج الانتخاب الفرعي واستغلالها. فانحسار الزعامة المسيحية لعون، جزئياً، في المتن لم يمنح خصومه المنطقة كلها، وهو لا يزال رئيساً لكتلة النواب المتنيين الثمانية جميعاً والكسروانيين والجبيليين الثمانية جميعاً. وشأن ما قيل من أن ما حدث الأحد الفائت قلّص حظوظ العماد في الوصول إلى رئاسة الجمهورية، لم يفضِ ذلك بالضرورة إلى أن خصومه، ولا سيما الزعماء الموارنة، أصبحت حظوظهم أحسن حالاً لبلوغ المنصب: ما كانت نتائج انتخابات 2005 ستقود عون حكماً إلى انتخابه رئيساً، ولا نتائج الانتخاب الفرعي في المتن وضعت خيار انتخاب الرئيس في صفوف قوى 14 آذار. ولا يُسقط ذلك أيضاً حظوظ الجميل وعون في الرئاسة، ولا النائب السابق نسيب لحود، لأسباب لا صلة لها بالشعبية والأصوات والمقاعد. كانت خسارة الجميل مدوية على نحو ما كانت خسارة نسيب لحود قبل سنتين. مع ذلك يتصرّف الأخير حيال احتمال ترشحه للاستحقاق بمعزل عن نتائج انتخابات 2005. وفي وسع عون بدوره أن يدافع عن شعبيته وشرعية تمثيله المسيحي من خلال النواب الـ23 في كتلته الذين يكتمل بهم نصاب الثلثين. فيما الكتل المسيحية الأخرى محدودة الفاعلية: للقوات اللبنانية أربعة نواب، ولحزب الكتائب نائب واحد في كتلة النائب وليد جنبلاط، وللنواب الموارنة الشماليين الخمسة تجمّع قليل التأثير. وباستثناء النائب بطرس حرب فإنه لا أحد منهم فاز بأصوات قضائه.
بل الأصحّ أن أياً من الانتخابات النيابية العامة أو الفرعية قادت مرة زعيماً مسيحياً إلى رئاسة الجمهورية باسم أصوات ناخبيه وشعبيته. لم يكن أي من الرؤساء فؤاد شهاب وشارل حلو وإلياس سركيس زعيماً، ولا أتت من قبلهم الانتخابات النيابية بالرئيسين بشارة الخوري وكميل شمعون، وقد وصلا إلى الحكم وخرجا منه بتوازن قوى إقليمي تفاعل محلياً. بل أيضاً أخفق ثلاثة زعماء موارنة كبار، مرشحين طبيعيين وتاريخيين للرئاسة، في أن يجعلوا من انتخابات 1968 حصاناً يقلّهم إلى قصر بعبدا. ورغم فوز كاسح حققه شمعون والشيخ بيار الجميل والعميد ريمون إده حينذاك، صار سليمان فرنجية رئيساً لأن توازن القوى وحده مكّنه من أن يكون تسوية ممكنة كي ينجح معارضو الشهابية.
ولأن الانتخاب الفرعي أدخل طرفي النزاع في الاستحقاق الرئاسي، يتداول رئيس المجلس مجموعة أفكار تتصل بتحرّك داخلي وخارجي ينتظر التوقيت المناسب. ويستند في موقفه هذا إلى معطيات أبرزها:
ـــــ مراقبة الأيام الفاصلة عن بدء المهلة الدستورية لانتخاب الرئيس الجديد للجمهورية التي تبدأ في 24 أيلول المقبل، بحيث تكون الجلسة الأولى غداتها. وسواء اكتمل نصاب ثلثيها أو لا، يشعر بري بالحاجة إلى إجراء مشاورات مع الكتل والقيادات اللبنانية، بما فيها المرجعيات الدينية، وأخصّها بكركي المعنية الأولى باستحقاق في حساب حصص الطوائف هو للموارنة. ويتجه بري إلى إجراء هذه المشاورات قبل الدخول في المهلة الدستورية، مع معرفته المسبقة بأن انتخاب الرئيس الجديد لا يصحّ ـــــ ولا يقتضي أن يصحّ ـــــ إلا في الربع الساعة الأخير منه. والمقصود بذلك قبل 48 ساعة أو 72 ساعة في حد أقصى من موعد التئام جلسة الانتخاب، لا جلسة جس النبض كالتي ستكون عليه في 25 أيلول، والمرجّح ألا يكتمل نصابها. وكان بري قد خبر تجربة المشاورات المسبقة في استحقاق 1995 عندما استمزج رأي النواب في نيسان وأيار عامذاك. لكن قرار التمديد للرئيس إلياس الهراوي كان سورياً محضاً.
ـــــ احتمال قيامه بجولة عربية على دول معنية بالاستحقاق الرئاسي تشمل أيضاً ـــــ إلى السعودية ومصر وسوريا ـــــ إيران، وكذلك فرنسا، للوقوف على سبل الحصول على دعمها لإجراء انتخابات الرئاسة اللبنانية، وخفض حدة التوتر السياسي الناشب، الأمر الذي يحمل بري على التيقن أن الاستحقاق الرئاسي اللبناني إقليمي بمقدار ما هو محلي، وأن توسّع النزاعات الإقليمية في ملفات ذات صلة مباشرة بالمنطقة والعلاقات الثنائية بين هذه الدول يحيل لبنان أرضاً خصبة لاستقبال النتائج السلبية لتلك النزاعات، ما يضع الرئاسة اللبنانية في المهب. ويدرك رئيس المجلس أنه ـــــ كما سائر القيادات اللبنانية ـــــ لا يملك «وحي» الاستحقاق وكلمته السرّية في حمأة الخلافات الساخنة.
والأصح أن كلمة السرّ هذه لا يملكها إلا مَن يعتقد أن في وسعه السيطرة على الوضع الداخلي اللبناني. ولأن سوريا فعلت ذلك في استحقاقات 1995 و1998 و2004، ملكت كلمة السرّ سواء أفضت بها إلى هذا الحليف أو ذاك. في انتخابات 1995 كانت كلمة سر التمديد للهراوي في يدي بري والرئيس رفيق الحريري أشدّ المتحمسين لاستمرار الرئيس الراحل في الرئاسة. وفي انتخابات 1998 عاد الهراوي من قمة 5 تشرين الأول بكلمة سرّ انتخاب الرئيس إميل لحود، لم يكن الحريري بعيداً عنها أيضاً. وفي تمديد 2004 كانت كلمة السرّ في عهدة معاونين كبار للحود طبخوا حركة إمرارها، وكان بري والحريري على طرف نقيض منها.
ورغم أن بري يعرف أيضاً أنه لا كلمة سرّ لانتخابات 2007 نظراً إلى توسّع نطاق المتدخلين الإقليميين والدوليين فيه، تتوخى رغبته في تحرّك خارجي ـــــ إذا وجد سلفاً جدوى منه ـــــ تسهيل إجراء الاستحقاق في موعده الدستوري تفادياً لفوضى تضرب الوضع الداخلي بقوته.
ـــــ يتفق رئيس المجلس مع معظم الاستنتاجات التي انتهى إليها الانتخاب الفرعي في المتن، ومفادها أن كلاً من الجميل وعون ربح وخسر في آن واحد: ربح الأول شعبية مسقطه، وخسر المقعد، وربح الثاني المقعد وخسر جزءاً من شعبيته. بذلك يكونان قد تقاسما الزعامة على المنطقة من غير أن ترجح كفة أحدهما على الآخر. لكن فحوى هذا التوازن أنه يلحّ على إخراج الاستحقاق برئيس توافقي.