عرفات حجازي
حركة دولية ضاغطة باتجاه إنجاز الاستحقاق الرئاسي على قاعدة التوافق والأصول الدستورية

أسدلت الستارة على الانتخابات الفرعية في بيروت والمتن الشمالي، وبدأت عوارضها بالانحسار تدريجاً، مترافقة مع مساع ناشطة لاحتواء ارتداداتها على البيئة المتنية. ومع بداية طي هذه الصفحة يتقدم مجدداً ملف رئاسة الجمهورية إلى واجهة الاهتمام والمتابعة سواء على المستوى الداخلي أو على المستوى الإقليمي والدولي، وتتجه الأنظار إلى رئيس مجلس النواب الذي سيكون نجم المرحلة بلا منازع، فهو لولب الاستحقاق وميزانه ومؤشر لحركة الرياح فيه، عنده تلتقي الأفكار ومنه تنطلق الحركة الوفاقية حيث يمتلك الرجل قدرة على توليد أفكار خلاقة، وهو رائد في ابتكارها منذ دعوته الأولى إلى جلسات الحوار في مطلع آذار من عام 2006 وما تلاها من مبادرات حققت الكثير من التفاهمات والاتفاقات، لكنه كان يجري باستمرار الالتفاف عليها وإجهاضها.
والمشكلة كما يراها الرئيس نبيه بري ليست في وصف العلاجات، فهي موجودة في مبادراته ومبادرات الجامعة العربية، لكن المشكلة في نقص القدرة على استعمالها وتمسك فريق السلطة بسياسة العناد والمكابرة. وهو إذ يجهد حالياً للعثور على نافذة للعمل على توسيعها، يأمل ألا يبادر الآخرون للسعي إلى إغلاقها، لافتاً إلى أن الارتهان للإرادات الخارجية هو الذي قاد إلى الوضع المأزوم الذي تعيشه البلاد حالياً، محذراً من مغبة دفع الاستحقاق الرئاسي ليكون ورقة في ساحة الصراعات الإقليمية والدولية ومركز الاستقطاب لمشاكل متعددة في المنطقة. ولم يعد سراً أن بري حدد النصف الثاني من هذا الشهر لبدء تحركه واتصالاته مع الكتل النيابية والمرجعيات السياسية والروحية للوقوف على رأيها وتصوراتها لكيفية إنجاز هذا الاستحقاق المفصلي وأهمية توظيفه في مسار المعالجات للأزمة السياسية ومتفرعاتها. وهو يحاذر حتى الآن عن كشف مضمون مبادرة تردد أنه سيطلقها في 31 من الشهر الجاري، في ذكرى تغييب الإمام موسى الصدر، وإن كانت التقديرات ترجح ألا تختلف في جوهرها عن الأفكار التي طرحها على وزيري خارجية فرنسا وإسبانيا ولاقت قبولاً واستحساناً منهما، واعتبراها قاعدة يمكن البناء عليها لإنجاز تسوية منصفة وعادلة تأخذ في الاعتبار مطالب الطرفين وهواجسهما: الموالاة والمعارضة، وتقوم على أساس أن مبدأ تأليف حكومة وحدة وطنية لم يفت أوانه بعد، ولم يصبح خلفنا كما يحاول البعض أن يوحي، إذ إن أربعة أشهر لا تزال تفصلنا عن نهاية الفترة الدستورية لانتخاب رئيس جديد للجمهورية، وإن قاعدة التوازي لا التزامن هي المرتكز للمرونة التي أبداها بري حيال اتفاق «سلة» يكون أول بنودها احترام المهل الدستورية والتوافق على رئيس للجمهورية والالتزام بانتخابه في الموعد الدستوري المحدد وفق نصاب الثلثين.
لكن فريق السلطة على ما يظهر لم يحسم بعد في نقطتين لم تعودا قابلتين للنقاش: نصاب جلسة الرئاسة، وحكومة الشراكة الوطنية على قاعة 19 ـــ 11.
من هنا يرى المراقبون أن مهمة بري لن تكون سهلة، لكنه مصمم على المضي بها مهما كانت الظروف، وأنه لن يستسلم للوقائع المعاندة والمعاكسة ولدفاتر الشروط المبالغ بها، مراهناً على امتلاك اللبنانيين للواحد والخمسين من قرار إدارة اللعبة الديموقراطية ولبننة الاستحقاق الذي تتبارى الدول الشقيقة والصديقة في حث اللبنانيين على التوافق في ما بينهم حتى لا تفرض الحلول عليهم من الخارج.
صحيح أن المهمة صعبة، وتحتاج إلى جهد وصبر ومتابعة مع الجهات الداخلية والخارجية، ومن هذا المنطلق فاتح السفير السعودي بضرورة توفير دعم حقيقي لمبادرته وعدم الاكتفاء بإبداء النصح، بل بممارسة الضغوط على أصدقاء المملكة في فريق 14 آذار للتحاور والانفتاح مع الأفكار الواقعية والمتزنة بعيداً عن المراهنة على غلبة فريق على آخر، لأن المطلوب المرتقب هو تنازلات يقدمها كل فريق لمصلحة الوطن وتفضي إلى تسوية ممكنة تتجنب النصر الحاسم والغوص في حسابات الغلبة الفئوية وتؤمن شبكة أمان مرضية تبدد هواجس الجميع، وخصوصاً أن حكومة الوحدة الوطنية التي يطرحها ائيس المجلس معبراً مسهّلاً للوصول إلى الاستحاق الرئاسي باتت حاجة وضرورة وعنواناً لتسوية عادلة، لأن برنامجها سيقوم على رزمة نقاط يقر بها كل الفرقاء من مقررات مؤتمر الحوار الوطني مروراً بالقرار 1701 وانتهاء بباريس 3، وهي ثوابت لا أحد يتنكر لها وحازت إجماعاً وطنياً على طاولة الحوار. أما على المستوى الخارجي فتتزايد الإشارات إلى وجود محاور تمتد خطوط تواصل في ما بينها لحماية الاستحقاق اللبناني المقبل وتوفير إمكانات إنجازه، لأنه يشكل بالنسبة للمجتمع الدولي محطة فاصلة في تحديد اتجاه الوضع للمرحلة المقبلة ووضع الأزمة على طريق الحل.
ووفق المعطيات المتوافرة فإن المجتمع الدولي بات مقتنعاً، وبصورة خاصة الولايات المتحدة بالسير في إجراء انتخابات الرئاسة وفق الأصول الدستورية، ما يعني القبول بنصاب الثلثين واعتماد التوافق أساساً لإنجاز العملية الدستورية في موعدها.
كما أنه يعني أيضاً التسليم بوجود توازنات سياسية في لبنان لا يمكن إطاحتها وتحول دون تمكين أي طرف من حسم الاستحقاق لمصلحته.
وهذه التوافقات الدولية تشكل قاعدة إسناد حقيقية لمبادرة بري الخاصة بالاستحقاق الرئاسي والهادفة إلى تأمين ظروف مناخات سياسية منفتحة تفتح الأبواب على حوارات هادئة تقود إلى إنهاء الأزمة، لأن جمود المواقف والبقاء في الدائرة المغلقة ذاتها يقفل نوافذ التسويات ويحكم ربط الأزمة بصراعات المنطقة، ويحول لبنان إلى ساحة لكل اللاعبين الإقليميين والدوليين.