strong>مهى زراقط
  • «العمل ليس عيباً ما دمت أشعر بأني محترمة أينما حللت»

  • «من هذا الزقاق إلى الشمال، زقاق آخر إلى الشمال، انتبهوا من جرذ قد يقفز فجأة، هذه الرائحة منبعثة من حفرة الصرف الصحي... مقفلة، لا تخافوا. في محلّ الدواليب هذا يعمل ابني الصغير. وهذا مكتب الوزارة... بيتي... أهلاً وسهلاً... تفضّلوا:

    تضع سعاد أحمد (47 عاماً) مفتاحاً في قفل بوابة حديدية بيضاء وتدعونا ضاحكة إلى الدخول إلى «وزارتها». خلف الباب غرفة واحدة من دون بلاط، أثاثها عبارة عن خزانة قديمة «شحّدتني إياها (...)، توفيت الآن، الله يرحمها» وسرير «شحّدتني إياه (...)» ومجموعة من الفرش الإسفنجية «شحدَتها» أيضاً من نسوة عملت في بيوتهن خلال أكثر من 18 عاماً.
    «لا أخجل ولا أخفي شيئاً. من يعطِني شيئاً أخبر الجميع أنه ساعدني» تقول سعاد وهي تقترح تحضير القهوة قبل إجراء المقابلة والتقاط الصور. تضحكها الفكرة، فتضرب رأسها بيدها وتقهقه «يعني بدي أطلع ع التلفزيون؟ شو بدكن ياني قول؟».
    نقترح الاتفاق على ما ستقوله بعد أن تحضّر القهوة في ما تسمّيه مطبخاً، وهو عبارة عن مساحة مربّعة لا تسع أكثر من شخصين، فيه غاز وخزانة صغيرة تحوي بعض الأواني المنزلية. أما الحمّام فلا يتّسع إلا لكرسيّه.
    تعتذر سعاد عن كون فناجين القهوة غير جميلة «إن شاء الله آتي بأجمل منها» تقول وهي تسكب القهوة. تتربّع في جلستها على الأرض وتنتظر الأسئلة، لكنها تلاحظ أن الغرفة لا تزال تحت المراقبة، فتشرح: «السقف أصلاً من «الإترنيك» لكنني دفعت 70 ألفاً للنجار ووضعت ألواحاً خشبية تحت التنك لكي أردّ حرارة الشمس صيفاً... يعني يبقى الصيف أفضل من الشتاء حيث تجتاح مياه الأمطار البيت وتغرقه بالكاملتعيش سعاد في هذه الغرفة، الكائنة في مخيّم صغير قرب منطقة الكولا، مع عائلتها المؤلّفة من زوج مريض (71 عاماً) وأربعة أولاد، تتولى هي إعالتهم. تحكي قصة حياتها ضاحكة معظم الوقت، ساخرة أحياناً من نفسها، وأحياناً أخرى خجلةً مما قد تعتبره كثيراً عليها، كالـ«ريموت كونترول» الذي تغيّر به قنوات التلفزيون الصغير، الشيء الوحيد الذي اشترته من مالها الخاص «إيه، كلّو ع الكاتالوغ، شايفين؟». أما الجملة التي تشكّل محطّ كلامها فهي «كلّه في حبك يهون» على رغم أنها تنفي بشكل قاطع أن تكون عرفت الحب «لا، لم أحبّ زوجي. طلبني من أهلي وتزوّجنا، البنت عندنا لا تُشاور».
    سعاد سورية الأصل، لكنها لم تعرف نفسها إلا في لبنان، كما تقول. تزوّجت قبل أكثر من ثلاثين عاماً من لبناني يكبرها بـ25 عاماً، رآها في بلدتها بانياس. بعد زواجها انتقلت للعيش في لبنان في «بيت جميل» مؤلّف من ثلاث غرف، لكنها لم تستقر فيه طويلاً فقد احتله الفلسطينيون خلال الحرب اللبنانية، وتوصل زوجها إلى تسوية معهم بأن دفعوا له ثمنه ما أتاح له البدء ببناء بيت للعائلة في قريته مجدل بعنا في الجبل.
    قبل أن ينتهي بناء البيت استأجرت العائلة منزلاً في الجبل، ولم يمرّ وقت طويل حتى بدأت الأمراض تصيب زوجها الذي كان يعمل في البناء. في البداية كانت «الزايدة» التي أجبرتهم على الاستدانة، ثم مرض القلب الذي أجرى له أكثر من عملية أقعدته عن العمل وأرسلتها إلى الخدمة في البيوت.
    «صرت أسأل الجيران وكل من ألتقيه عن عمل يدرّ عليّ مالاً، أول بيت دخلته كان منزل المختار توفيق الزهيري الله يرحمه. ومن هناك صارت جارة تدلّ جارة إليّلا تتذكر سعاد قيمة المبلغ الأول الذي جنته من عملها «اللي كنت طلعوا كنت أدفعوا... والحقيقة أن ما كنت أحصل عليه لم يكن بدل عملي فقط، كثيرون ساعدوني، سواء عبر إعطائي المال أو الثياب أو غيره..». وهي لم تكن ترفض المساعدة لأنها تحتاج إليها «ولأن من ساعدوني لم يقلّلوا من احترامهم لي».
    هكذا أكملت سعاد تسديد كلفة بناء البيت وإعالة العائلة التي أدخلت جميع أفرادها (زياد وعبير وريما وزاهر) إلى المدارس «لم أفرض على أحد أن يترك المدرسة، هم قرروا ذلك، وحدها ريما لا تزال تدرس»، علماً أن سعاد لم تعرف المدرسة يوماً «الله مهوّن عليّ» تقول ضاحكة، من دون عتب على أهلها «لم يكونوا قادرين وحرموني، أهلي كانوا من الفلاحين الفقراء، نزرع ونأكل، وكنت أساعدهم، لم أنظر يوماً إلى ما عند غيري لأننا تربّينا على المبادئ والصدق».
    لم تتغيّر حياة سعاد كثيراً بعد زواجها: الفقر نفسه، والرضا بما قسمه الله لها نفسه، وحبّ الآخرين نفسه «حلو الواحد يحب الناس، بيموت مبسوط». هي تدخل إلى الكثير من البيوت، أحوال معظمهم جيّدة مادياً «لا أحسدهم لأني أعرف أنهم تعبوا من أجل أن يصلوا إلى ما وصلوا إليه. أدعو الله أن يوفّقهم ويعطيهم لكي يعطيني».
    بهذه النفسية تعمل، ما جعل الجميع يحبّها ويحترمها: «أهمّ شيء في عملي أن أشعر أني محترمة، وهذا متوافر لي، لذلك أنا لا أشكو ومستعدة لأصل الليل بالنهار في العمل». تدرك سعاد أن أساس مهنتها «الأمانة» لأنها غالباً ما تبقى وحدها في البيوت: «كلّ من أعمل لديهم «نفسيتهم متواضعة»، لم يقفلوا شيئاً في وجهي: لا غرفة ولا خزانة ولا حتى براد»، علماً أنها لا تبادر إلى تناول شيء من البيت الذي تعمل فيه وتشترط على السيدة التي تعمل لديها أمرين فقط: أن تأخذ مفتاح بيتها معها عندما تخرج لأنها لا تفتح الباب لأحد حتى لصاحبة المنزل، والثاني أنها لا تجيب على الهاتفلذلك هي لا تتعرّض للمشاكل، فبعد 18 سنة من العمل في البيوت لم تتعرّض إلا مرة واحدة لموقف قاس حين اتهمتها إحدى السيدات بالسرقة «لكن بعد وقت وجدت السيدة المبلغ الذي فقدته واعتذرت مني». سعاد قبلت الاعتذار لكنها لم تستطع العودة إلى العمل في البيت «ليست قصة مسامحة أو لا... لكني لا أملك إلا كرامتي. هناك من «زَتَّّني» في مهانة، والواحد عندو من نفسه حتى لو كان فقيراً».
    لكن ماذا يعني أن يكون الإنسان فقيراً؟
    لا يمكن سعاد أن تجيب، وهي التي تشكر للّه كلّ ما أعطاها إياه. لا تكاد تشعر أنه ينقصها شيء فلديها حلّ لكلّ مشكلة، وإلا فإن سيجارة «السيدرز» تساعدها قليلاً على عبور الأزمة «ثمن العلبة 750 ليرة» تجيب عن السؤال، وعن أسئلة أخرى تصبّ في الإطار نفسه: «أشتري أغراضي من منطقة صبرا. غالباً ما أذهب مشياً إلى هناك». وفي حالة المرض تلجأ إلى «الدكتور أمجد في مخيّم مار الياس، خصّص دواماً ليلياً ليساعد الفقراء»، وهو من أرشدها إلى طبيب أسنان صنع لها «بدلة» كلّفتها 100 ألف ليرة «أعطتني المبلغ سيدة أعمل عندها».
    تعرف سعاد أنه لم يكن بإمكانها أن تعيش حياة أفضل لأنها تعي ظروف أهلها جيداً: «كنا فقراء». لكنها تحلم بأن يعيش أولادها ظروفاً أفضل من ظروفها، وأن يستطيعوا توفير ما حُرموا منه. هنا فقط الدموع تجد طريقها إلى عيني سعاد الملوّنتين: «لا أتمنى إلا أن يعيشوا أياماً حلوة. ضحّيت كثيراً من أجلهم وما زلت قادرة على التضحية، المهم أن يعيشوا سعداء».