ثائر غندور
صريفا، اسم انضم إلى لائحة القرى التي تعمّدت بالدم وشهدت تدميراً ممنهجاً مثلها مثل شقيقاتها: عيتا الشعب والخيام وبنت جبيل... شهداؤها الذين سقطوا في غارات متكررة على البلدة في السابع عشر من تموز الماضي ينتمون إلى ثلاثة أحزاب لبنانية مختلفة: «الشيوعي اللبناني»، «حزب الله» و«حركة أمل». هي من البلدات القليلة التي شُيِّع الشهداء فيها جماعياً، ومن البلدات التي تتحضر اليوم لإقامة مهرجان خاص للشهداء يشارك فيه كل الأطراف

تدخل إلى بلدة صريفا بحذر. تتحدث إلى أبنائها بحذر أيضاً. فكل شخص منهم خسر قريباً أو منزلاً. الجميع تضرّر. تكاد تكون عبارة الحاجة فاطمة فقيه هي الأصدق. تقول وهي تتربع تحت منزلها الذي تحاول مطارق البنائين إعادته كما كان: «يا ريت ما بقي ولا بيت وبقيوا الشباب».
يزول الحذر تدريجاً مع الاقتراب من أهل البلدة، وملامسة إيمانهم بقضيتهم.
ما أن تسأل: «لماذا صريفا؟» يأتي الردّ: «نسأل السؤال ذاته».
يحيل أهالي صريفا هذا السؤال على المجرم الذي دمّر وقتل. لكنهم يحاولون أن يفسروا الأمر من دون تأكيده: «صريفا من القرى المهمة على مجرى الليطاني كما تُعَدُّ مدخلاً لمنطقة صور» يقول أحدهم. يهزّ صديقه رأسه ويضيف: «هم لا يُمكن أن ينسوا كيف قاد السيد عباس الموسوي المواجهات في عدوان 1986 من صريفا ولم يستطع العدو أن ينال منه».
في المقلب الآخر يعود أحد الشيوعيين بالتاريخ إلى عام 1982: «في ذلك الاجتياح لم ينس الإسرائيلي خسائره في أحد أحياء البلدة فسمّاه حي موسكو». ويضيف رفيقه: «خلال عدوان تموز 1993 قادت جبهة المقاومة الوطنية عملياتها من صريفا، حيث أُطلقت صواريخ «ستريلّا» على الطيران المروحي فامتنع عن التحليق فوق البلدة». ويستذكر آخر مواجهة إنزال عند أطراف حي موسكو في عام 1986، حيث خسر الجيش الإسرائيلي خسارة قاسية.
هم غير أكيدين من هذه الأسباب، لكنهم يجزمون بأن هذا العدو لا ينسى أبداً من استطاع أن يؤذيه.
رده كان قاسياً عليهم، مجزرة ذهبت بخيرة شباب البلدة، وجمعت مقاومين من مختلف الأحزاب اللبنانية. هذه المجزرة التي لم يستطع الإعلام الإضاءة عليها إلا خلال الهدنة:
يومها وصل موكب سيارات الصليب الأحمر إلى البلدة. أرشد شباب صريفا المسعفين إلى أماكن وجود الشهداء. اتجهوا إلى المنازل المدمرة. بعد وقت قليل أعلنوا استسلامهم: «لا يمكن انتشال أي جثة، لأننا بحاجة إلى جرافات، وهذا غير ممكن حالياً» قال المسؤول في الصليب الأحمر، وترك صريفا مع شبابها.
حاول المصوّرون أخذ لقطة لعناصر المقاومة، لكنهم رفضوا جميعاً. فجأة وافق أحدهم مشترطاً: «صوّروني وأنا أُطلق سراح العصفور من القفص». رفض العصفور الخروج من قفصه. هو لا يدري أن القصف الإسرائيلي سيستهدف هذا البيت. كذلك لم يدرِ شباب صريفا أن عدوّهم سيجرؤ ويستهدف الأحياء السكنية.
انتهى دور الصليب الأحمر عند الثانية ظهراً، وانتهت بعده بساعات هدنة اليومين ويعود القصف عنيفاً إلى صريفا.
الوارد أعلاه هو ما حصل خلال محاولة سحب جثث شهداء صريفا في يومي الهدنة... محاولة يتيمة باءت بالفشل، وبقيت الجثث تحت الركام ثلاثة أيام بعد انتهاء الحرب.
مسلسل الأحداث بدأ عند الساعة الحادية عشرة ليل السادس عشر من تموز 2006. قصف مدفعي إسرائيلي عنيف تتعرّض له أطراف بلدة صريفا. ترك شباب المقاومة، على اختلاف أحزابهم، مواقعهم ولجأوا إلى المنازل المحيطة. بعد ثلاث ساعات كاملة، تغير الطائرات الحربية الإسرائيلية على عدة منازل في حي الجامع وحي موسكو الآهلين بالسكان في البلدةيتذكر زياد، أحد الناجين من المجزرة، أن صمتاً ساد بعد انتهاء الغارات، حاول على إثره الاتصال برفيقه حسن عبر الهاتف. لكن حسن لم يجب وانقطع الاتصال. دقائق معدودة واكتشف الحقيقة المرة: يبدو أن الطائرات الإسرائيلية أغارت على المنزل الذي لجأ إليه الشباب. كانت آخر كلمة سمعها من حسن هي: «سامع صوت طائرة مروحية؟». انقطع الاتصال قبل أن ينفي له الأمر.
بعد دقائق ذهب زياد إلى منزل قريب منه كان لجأ إليه ما يزيد على خمسين شخصاً غالبيتهم من النساء والأطفال. حاول تهدئتهم ثم خرج من المكان الذي أسماه «ملجأً» وما أن وطئت قدماه الدرج مغادراً حتى أغارت الطائرات مجدداً قربه. «طار» زياد لأمتار... ركض واختبأ تحت شجرة.
توقفت الغارات بعد وقت. اتجه زياد صوب المنزل الذي يضم: حسن كريّم، علي ومحمد نجدي وأحمد سليم. ناداهم كلاً باسمه. لم يجب أحد. ثلاث طبقات هوت على رؤوس الشباب الذين أصبحوا شهداء.
لا يعرف زياد كيف تمالك أعصابه. هو مسؤول عن عدد كبير من الشباب غير الذين استشهدوا. طلب منهم جميعاً الانتشار بين الأشجار المحيطة، تحسباً لأي إنزال قد يلي عملية القصف والإغارة.
«سقط خيرة شبابنا شهداء، لكن علينا أن ندافع عن القرية» يقول زياد مستذكراً تلك اللحظات، ثم يستدرك: «كان عليّ إبعاد الشباب عن المنازل حتى لا يُدركوا ما حصل، وخصوصاً أن عدداً منهم يرتبط بصلات قربى مع الشهداء».
بعد نصف ساعة عاد أحدهم، ابن أخته بين الشهداء، وقال لزياد: «استشهدوا الشباب». أومأ برأسه إيجاباً. أصرّ هذا الرفيق على إحضار سيارة دفن الموتى لانتشال الجثث رغم تأكيد زياد له عدم القدرة على انتشالهم، لكنه خضع لرغبته ورافقه. مجدداً تعاود الطائرات طلعاتها، هذه المرة المروحية منها، وتحلّق على علوٍّ منخفض جداً «لدرجة أن شتلات التبغ كانت تتراقص» ما اضطر الرفيقان إلى الاحتماء تحت شجرة حتى انتهاء موجة الطيران هذه.
خلال الغارات، بعيداً عن زياد والشباب بأمتار، كان الحاج حسن نجدي وزوجته الحاجة فاطمة وسبعة من أقاربهم لا يزالون في منزل نجدي الملاصق لمنزل تعرّض للإغارة. وقع «عامود الثياب» بقربه. صرخ شقيق زوجته بها: «شوفي زوجك مات».
نادته الحاجة فاطمة، لكنه لم يردّ عليها. أغارت الطائرات الحربية ثانية. «غطّينا وجوهنا بالطراريح للاحتماء من الشظايا» تقول الحاجة فاطمة، يضيف زوجها الذي كان لا يزال حياً: «انخلعت الأبواب والشبابيك».

عند الساعة الخامسة صباحاً هربوا من منزلهم وبقي الحاج حسن وحده في المنزل لأن الحاجة فاطمة قالت له: «بهرب أنا. إذا متُّ تبقى أنت، وإذا متَّ إنت أبقى أنا، أليس أفضل من أن نموت نحن الاثنين». حاول الحاج الاختباء تحت الخزانة: «ما قدرت بسبب الكرش» فلجأ إلى إحدى زوايا المنزل لأنها بنظره أكثر أماناً.
كان يجب انتظار الصباح حتى تنقشع الحقيقة وتكشف استشهاد ثلاث مجموعات مقاومة: واحدة تابعة للحزب الشيوعي والثانية لحزب الله والثالثة لحركة أمل.
عندئذٍ أيقن الشباب أن بقاء المدنيين في القرية لم يعد آمناً. فأجبروا السكان المدنيين على ترك القرية وكان عددهم آنذاك يتجاوز ثلث سكان البلدة.
صدر القرار بإخلاء القرية، ولا تهم الوسيلة. في السيارات أو سيراً على الأقدام متبعين مجرى نهر الليطاني وصولاً والأوامر واضحة: «إذا استشهد أحد أكملوا سيركم ولا تنظروا إلى الوراء». نزح الأهالي ولم يلتفتوا وراءهم. أُفرغت البلدة من كل السكان إلا من شبح الموت ورائحة الجثث، نزحوا مشياً على الأقدام باتجاه الجرود والوديان، تاركين وراءهم كل شيء، لعلهم ينجون من آلة الحقد الصهيونية، من آلة الدمار الإسرائيلية التي تقودها أطماع ذلك العدو وعجرفته التي لا تعرف سوى لغة الرصاص.
بقي عددٌ قليل من الشباب المقاومين في البلدة للمحافظة عليها، مع قلة من العجزة الذين لم تتوافر لهم وسيلة نقل ولا يستطيعون المشي. يروي أحدهم أنه بقي مع أعمامه الثلاثة وزوج عمته طوال أيام الحرب. كانوا يقضون ليلهم في إحدى مغاور البلدة، أما هو فكان يبقى معهم طوال النهار ثم يعود للنوم في منزله. في أحد الأيام طلب منه أحدهم اصطحابه للنوم معه في المنزل لأنه بات ينزعج من رائحة البقر والماعز التي يملكها الآخرون، ويعتاشون منها. «لكن لحظه السيئ، أغارت الطائرات الحربية على البلدة، فعاد مسرعاً إلى المغارة».
ومن الروايات الأخرى الجوع الذي عاناه الجميع، بما فيهم الكلاب «هجم كلبان مرة على معزاة حية ليأكلوها، هجمنا عليها بالحجارة لطردها لكنها لم تكترث بنا... كان هناك خوف فعلي لدينا من أن يؤدي جوعهم إلى مهاجمتنا نحن أيضاً».
أفرغ العدو الإسرائيلي كامل حقده على هذه البلدة، مدمراً 335 منزلاً تدميراً كاملاً وتضرّر نحو 600 منزل بشكل مباشر.




شهداء المجزرة

نديم محمد سعيد (مواليد 1975)، الشيخ وسيم شريف (مواليد بعلبك 1982)، محمد كمال الدين (مواليد 1985)، الرقيب الأول علي محمود زعرور (مواليد 1978)، بلال حسن حمودي (مواليد 1979)، علي كامل جابر (مواليد 1977)، علي نزال نزال (مواليد 1982)، فادي كمال الديب (مواليد 1976)، بسام محمد نجدي (مواليد 1979)، هشام محمد حمودي (مواليد 1973)، أحمد كامل جابر (مواليد 1978)، محمود كامل جابر (مواليد 1977)، كامل ديب جابر (مواليد 1942)، عماد علي جابر (مواليد 1976)، وسيم غالب نجدي (مواليد 1978)، علي حسين جابر (مواليد 1979)، علي محمود نجدي (مواليد 1977)، بسام محمد نجدي (مواليد 1979)، هشام محمد حمودي (مواليد 1973)، عباس محمود دكروب (مواليد 1981)، عباس أمين دكروب (مواليد 1986)، علي محمد دكروب (مواليد 1941)، علي محمد علاء الدين (مواليد 1970)، مناهل حسن نجدي (مواليد 1920)، علي محمد حيدر (مواليد 1986)، حسن سلامة كريّم (مواليد 1979)، علي حسن نجدي (مواليد 1976)، محمد علي نجدي (مواليد 1969)، أحمد سليم نجدي (مواليد 1964).
يذكر أن عائلة عقيل بهيج مرعي، العائد من البرازيل لقضاء فصل الصيف استشهدت بالكامل صباح اليوم الثاني لاندلاع الحرب، وهي تضم زوجته أحلام جابر (27 عاماً) وطفليهما علي الهادي (سنتان) وفاطمة الزهراء (سنة واحدة).




حدث في 19 تموز

مع انقضاء الأسبوع الأول للحرب الإسرائيلية المفتوحة، قرّرت واشنطن، ومعها الأمم المتحدة والدول الغربية ومعظم الحكومات العربية، منح إسرائيل تفويضاً جديداً لمدة أسبوع جديد، سيكون مفتوحاً على «مهلة زمنية غير محددة».
في هذا الوقت، كانت الوقائع الميدانية تشير إلى تسجيل المقاومة رقماً قياسياً في غزارة الصواريخ وعمقها الناري في الداخل الإسرائيلي، وكذلك في الأهداف التي حققتها في بعض المواقع العسكرية والمنشآت الحيوية الحساسة. حيث أدّت المواجهات التي اندلعت بين رجال المقاومة ومجموعات إسرائيلية حاولت التوغل برّاً في اللبونة بين علما الشعب والناقورة، وجبل الباط بين عيترون ومارون الراس إلى مقتل ستة جنود إسرائيليين وجرح أكثر من 14 وتدمير ثلاث دبابات «ميركافا»، ولم يعترف الإسرائيليون إلّا بمقتل جنديين وجرح تسعة آخرين هذه المعطيات الميدانية ردّت عليها إسرائيل كالعادة بارتكاب المزيد من المجازر على امتداد الوطن من صريفا والنبطية وسلعا وصولاً إلى النبي شيت ومعربون، وهو ما دفع رئيس الحكومة فؤاد السنيورة إلى إطلاق نداء الى المجتمع الدولي، هو الثالث من نوعه منذ اندلاع الحرب، من أجل وقف نار فوري وإنساني وإمداد لبنان بمعونة إنسانية دولية عاجلة. وكان لافتاً للانتباه استهداف مقرّين للقوات الدولية العاملة في الجنوب اللبناني في الناقورة ومارون الراس، وكذلك استهداف مقرّ القوة الأمنية اللبنانية المشتركة في مهنية بنت جبيل، الأمر الذي أدى إلى جرح ستة عشر جندياً ودركياً لبنانياً.
وتواصلت عملية إجلاء الرعايا الأجانب والعرب براً وبحراً وجواً، وكان البارز فيها إعلان الرئيس الاميركي جورج بوش أن الولايات المتحدة سترسل قوات قريباً إلى لبنان لحماية الرعايا الأميركيين والمصالح الأميركية.




أحمد زعرور المعّاز الصامد

تجاعيده السمراء، وشرايينه البارزة، تدل إلى صدق هذا الرجل. تجده يومياً في «مراحه» بين بلدتي صريفا وشحور. أحمد زعرور، أكبر «معّاز» في بلدة صريفا، يملك نحو 400 رأس ماعز. يقول بفخر: «لم أترك المعزايات ولا يوم». بقي أبو حسين في «مراحه» (المراح هو قطعة أرض بُنيَت عليها زريبة للماعز) طوال ثلاثة وثلاثين عاماً. خلال الحرب أرسل أفراد عائلته إلى بيروت ليؤمن على حياتهم. يؤكد أنه لم يلتق أحداً طوال وجوده في البلدة «ولا حتى مجاهد».
في الحرب، كان يوم أبو حسين يبدأ مع الفجر، «أشرب كوب حليب». ثم يأخذ الماعز نزولاً عبر الجبل إلى وادي بلدة شحور حيث يمرّ نهر الليطاني. عندما يسمع صوت قصف قريب «كنت أنبطح (أنام) على الأرض. مرّة نزلت قذيفة بين الطرشات (الماعز) وقتلت نحو خمسين رأساً». حاول أن يعالج الماعز الجريح، لكنه لم ينجح في إنقاذ حياتها كلّها «كنت أعرف أن هذه المعزاة جريحة من تكوّم الذباب على الجرح».
تسأل أبو حسين لماذا لم يهرب، فيجيب: «والله كنت كل يوم أقول لنفسي هذا آخر يوم لي في البرية، شو بدي موت هيك. لكن عندما أصل إلى النهر وأرى «المعزايات» كان يكبر قلبي بها فأقرر البقاء». قبل الغروب كان يعود بالماعز إلى «المراح»، يأكل «كم حبة بندورة زارعهم» وينام. يشتكي أحمد زعرور من قلة الاهتمام به، فهو سجّل خسائره من المواشي التي يسمّيها «ضحايا»، لكنه لم يتقاض تعويضاً عن خمسين رأس ماعز فقدها إلّا في الأسبوع الأول من حزيران، أما المبلغ فلم يتجاوز: 400 دولار أميركي.




سير الشهداء على ألسنة رفاقهم

تحضر سير الشهداء في جلسات شباب صريفا المنضوين في «الحزب الشيوعي». يتذكرونهم كأنهم لم يرحلوا عن هذه الدنيا بعد، أو كأن رحيلهم عن هذه الدنيا شهداء جعلهم أقرب إليهم من السابق. الشهادة عندهم تعني «حب الحياة إلى حدودها القصوى» أي إلى حدود التضحية في سبيلها. «نموت لنحيا بكرامة» هو شعار الذين بقوا على قيد الحياة، مصرّين على بقائهم لخوض أي مواجهة جديدة مع العدو. يعرفون مدى جهوزية حزب الله، وأن خوض المعركة يحتاج إلى سلاح متطوّر كالذي استخدمته المقاومة، «لكننا نبقى وإياهم يداً بيد في انتظار العدو حتى تطأ أقدامه أرض قرانا لنعلّمه كيف يكون القتال».
الاستشهاد فتح المجال لرواية قصص مضى عليها زمن طويل، كيف واجه هؤلاء العدو في حروب سابقة، وكيف كانوا يدرّبون الشباب على استخدام السلاح ضمن هاجس الحفاظ على الذخيرة لصعوبة الحصول عليها اليوم بسبب الحصار الذي يعيشه هذا الحزب.
أحمد سليم نجدي أو «أبو سهى»، يبلغ من العمر أربعة وأربعين عاماً، بدأ عمله المقاوم مع بدايات «جبهة المقاومة الوطنية» بعد نداء الشهيد جورج حاوي ومحسن إبراهيم في 16 أيلول 1982. التصق بالسلاح، من دون أن يُخبر أحداً قصص المواجهات، رغم أن الذين عملوا معه في المجموعة العسكرية يروون عنه الكثير. فهو شارك في عددٍ كبير من العمليات النوعية، منها عملية «أسرى ديرسريان» عام 1989 التي كان من المفترض أن تأسر جنوداً للعدو لمبادلتهم بالأسرى اللبنانيين، فأُسرت مجموعة مقاومة على بُعد 20 متراً منه، لكنه بقي في موقعه، حتى استطاع إنقاذ مجموعته. ويُعرف عنه أنه والد حنون جداً، وهو كان يحمل صور أبنائه الثلاثة، وقال لرفاقه: «مش حرام استشهد بلا ما شوفهم». اليوم، يزيّن سلاح «أبو سهى» الشخصي مكتب الأمين العام لـ«الحزب الشيوعي اللبناني» الدكتور خالد حدادة، فهو كان قائد المجموعة التي استشهدت.
محمد علي نجدي، المعروف بـ«العين الراصدة» أو «جهاز الرادار» الذي تعوّد أن يمد «جبهة المقاومة بالمعلومات»، أو «العصفور»، نجا من الموت المحتم في عدوان تموز 1996 عندما سقطت قذيفة في قنوات الصرف الصحي على بُعد ثلاثة أمتار منه. توقف عمره عند السابعة والثلاثين، أمضى معظمها مقاوماً في صفوف جبهة المقاومة الوطنية. المعروف عن «العصفور» دقّته وحضوره في النقاط الضرورية، فهو من أهم الكوادر الشيوعية التي عملت في رصد تحركات العدو وعملائه طيلة فترة الاحتلال.
أما الشهيد علي نجدي، المولود في الأول من آذار 1976. فقد استحم في صباح يوم المجزرة. ارتدى ثياباً يحبها، ووضع «الجل» على رأسه. عندما رآه «الرفاق» سألوه عن سرّ «هذه البرزة» فأجابهم: «مش أفضل استشهد أنا ومرتب هيك».
علي الناشط والنشيط في «اتحاد الشباب الديموقراطي» منذ سنوات، معروف بتهذيبه الفائق. يقول أحد أصدقائه مستذكراً: «لم أسمعه يوماً يقول كلاماً بذيئاً». قبل استشهاده عمل جابياً في شركتي الكهرباء والماء، ولذلك كان لاستشهاده وقع على أبناء القرى المجاورة الذين تعوّدوا عليه.
يتذكّر أحد رفاقه في الاتحاد، أنه رافق خلال انعقاد المؤتمر السادس للاتحاد، علي إلى منزل أحد الرفاق للمبيت لديه. وصل علي وغسّل ثم مدّ «المصلية» وصلّى. فوجئ هذا الرفيق قبل أن يدرك أن علي مؤمن ويُمارس شعائره الدينية بانتظام، ولو كان شيوعياً.