جوزف سماحة
«الجدار الحديد» تعبير اشتقّه زيئيف جابوتنسكي.
كان الرجل زعيم التيار اليميني في الحركة الصهيونية المعروف بـ«التيار التحريفي». دعا إلى استقلال «الحركة الوطنية اليهودية» عن الاستعمار البريطاني. رأى، على الدوام، أن فلسطين التاريخية من ضفتين، وصاغ شعار «الضفة الغربية لنا، والضفة الشرقية أيضاً». لم يتشارك مع اليسار الصهيوني في ادعاءات حمل التقدم إلى شعب فلسطين. على العكس، كتب يقول إن من حق الشعب الفلسطيني التمسك بأرضه، ومن حق «الشعب اليهودي» انتزاعها. واستنتج أنه يفهم تماماً رفض الفلسطينيين والعرب مسامحة «اليهود» على ما فعلوه بهم. ومن هنا، فإن الحل الوحيد، من وجهة نظره، هو جعل الرأس العربي يرتطم بـ«الجدار الحديد» حتى يتحطّم ويستسلم.
أدّت التطورات اللاحقة، في الحركة الصهيونية ثم دولة إسرائيل، إلى دفع «اليسار» لتبنّي نظرية «الجدار الحديد». أما اليمين فبات رأيه أن الاستسلام قد لا يكفي وحده من أجل جعل التسوية ممكنة.
المهم أن سلوك إسرائيل في العقود، وخصوصاً السنوات الأخيرة، يؤكد أن نظرية تحطيم الرأس العربي هي النظرية السائدة في الأوساط الحاكمة. وقد أُعيد إنتاجها مرة في صيغة «كيّ الوعي»، ومرة أخرى في صيغة «إن ما لا يتحقق بالقوة يتحقق بمزيد من القوة».
وما من صهيوني جدّي إلا يعيد الإنجازات السياسية الإسرائيلية إلى مقولة «الجدار الحديد». يطيب لـ«أنصار السلام» العرب الحديث عن «ثقافة السلام»، وعن «حدود الروح»، وعن «العقلانية» وعن «الرغبة في كسب الرأي العام»، وعن... يطيب لهم ذلك ما شاؤوا غير أن الصهيوني الجدّي يهزأ بهم في سرّه، ويستخفّ بتبريراتهم. ويؤكد أن أي سلام لم يكن ليحصل لولا العنف الذي مارسته إسرائيل على العرب فاستولدت لدى بعضهم وعياً مؤدّاه أنه لا مجال لأي بديل آخر غير سلوك درب السلام بأي ثمن، أي، عملياً، درب الاستسلام.
من يستمع إلى محاضرات بعض العرب، وخاصة إلى محاضرات سقط المتاع لليبراليين الجدد، يلحظ هذا التأفف المبالغ فيه من استخدام العنف، واستفزاز مشاعر «الرجل الأبيض». واللافت أن أصحاب هذه النظرية يتجاهلون تماماً أن نظريتهم نفسها هي الابنة الشرعية للعنف الإسرائيلي الممارس ضد مجتمعاتهم.
ومن يستمع إلى التبريرات التي قيلت في شرح سياسات عربية معينة، منذ زيارة الرئيس أنور السادات إلى القدس، يلحظ أن الحجة الجوهرية هي انعدام القدرة على مناطحة القوة الإسرائيلية، فكيف إذا أُضيف إليها الجبروت الأميركي. يمكن المرء أن يسارع إلى القول إن هذه النظرية تحطّمت تماماً في خلال الشهر الماضي. تحطّمت بكلفة لبنانية باهظة ولكنها تحطّمت. إلا أن الدقة تدفع، ربما، إلى الاكتفاء بالقول إن هذه النظرية تعرضت لامتحان قاس. لقد فتحت ثغرة في «الجدار الحديد».
تقضي الأمانة إضافة عنصرين إلى ما تقدّم:
العنصر الأول هو أن الشعب الفلسطيني كان سبّاقاً في افتتاح هذه الثغرة. لقد فعل ذلك وهو يواجه حصاراً استثنائياً، وقمعاً قاسياً، وعزلة دولية وعربية. ولقد فعل ذلك بعدما اكتشف الطريق الآخر فاكتشف أنه طريق إلى لامكان. وإذ تؤكد التجربة الفلسطينية شيئاً فإنها تؤكد أن إسرائيل تزداد ميلاً إلى التصلّب بقدر استشعارها ميلاً في ميزان القوى لمصلحتها.
العنصر الثاني هو الذي أصاب المشروع الأميركي في العراق. فالمشهد من بغداد يوحي بأن القوة العظمى الوحيدة في العالم تستطيع أن تحشد حلفاء وأن تستدرج خصوماً سابقين إلى تأييدها، ولكنها مع ذلك تستمر في التخبّط والفشل. لقد ارتدّت المغامرة العراقية على أصحابها. وهكذا بدل «الدومينو» المتوقع بتنا أمام «دومينو» من نوع آخر أي أمام مفاجأة مذهلة تقول إن أميركا إنْ لم تكن قابلة للهزيمة فهي، على الأقل، قابلة لأن تُحرم من الانتصار.
ها هي إسرائيل تكرر، في لبنان، جانباً من أخطاء السياسة الأميركية في العراق. لقد أقدمت على حربها رغبةً منها في أن تشارك في المعركة الكونية «على الإرهاب»، ولكن، أيضاً، لتستعيد الرهبة الردعية التي تعتبر أنها فقدتها في غزة ولبنان.
ويكاد المعلّقون الإسرائيليون يُجمعون على أن هذه القدرة الردعية تعاني الأمرّين بعد مضي شهر على القتال. إن الصمود الذي يواجه العدوان الإسرائيلي هو صمود مغرٍ نتمنى له أن يكون معدياً وذلك بغضّ النظر عن مستقبل المواجهة.
لقد تصدّع «الجدار» بعض الشيء، وتصدّع معه بناء نظري متكامل يحذّر من «رفع اليد على إسرائيل». إنْ لم يكن للأسابيع الماضية من فائدة فهذه الفائدة كافية شرط أن يعتبر من يريد الاعتبار.
جوزف سماحة
السبت 12 آب 2006