محمد بدير
استحوذت شخصية الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله على اهتمام واسع وكثيف طيلة عدوان تموز على لبنان، من قبل الأوساط الإسرائيلية عامة، والإعلامية منها خاصة.
وليس من المبالغة في شيء القول إن نصر الله كان النجم الأبرز والأول بامتياز، حضوراً وغياباً، على صفحات الصحف وشاشات التلفزة العبرية، وألسنة المحللين والمعلّقين الإسرائيليين. ولعل من الصحيح القول إنها ربما تكون من الحالات الفريدة في تاريخ الحروب الإسرائيلية مع العرب، التي يُجمع فيها الإسرائيليون بجميع أطيافهم على اعتبار أن مصير المعركة برمّتها متوقف على حسم مصير شخص بعينه، هو السيد نصر الله.
وربما يكون هذا العنصر أحد أهم الأسباب التي جعلت الأوساط الإسرائيلية، الأمنية والسياسية والإعلامية، تهتم بمعرفة ومتابعة كل ما يتعلق بالسيد نصر الله من مواقف وأوامر وتصرفات. وقد تجلى ذلك صراحة في التهديدات التي أطلقها قـادة العدوان الإسرائيلي على لبنان ضد نصر الله شخصياً.
«لن ينسى نصر الله اسمي» كانت العبارة الشهيرة التي أطلقها وزير الدفاع الإسرائيلي عامير بيرتس، فيما لم يخجل رئيس حكومته إيهود أولمرت في اعتبار لجوء الأمين العـام لحزب اللــــــــــــه إلى التخفي والتحصن، إنجازاً كبيراً، ولو يتيماً، لحربه على لبنان، فيما كانت آلته العسكرية وقادتـــــــــــه الأمنيـــــــــون والعسكريون يُخططون ليل نهار لاستهدافه، وهو ما كانوا يُجاهرون به على رؤوس الأشهاد.
وكان لافتاً أيضاً انضمام وسائل الإعلام الإسرائيلية إلى الدعوة إلى ضرورة تصفية السيد نصر الله من جهة، والترويج في بداية الحرب للكثير من الشائعات عن قرب تحقيق هذه الأمنية من جهة ثانية. وكثيراً ما نُشرت تعليقات وتحاليل في الصحف العبرية، خلال الحرب، حاولت من خلالها نسج الروايات عن الوضع الصعب الذي يعانيه نصر الله جرّاء الضغط الإسرائيلي الشديد عليه، وذلك بالاستناد إلى «معلومات أمنية» تارة، وإلى تحليل نبرة صوته وتقاسيم وجهه وملامح جسده وحركات يده، من خلال رسائله الصوتية والمصورة التي وجهها خلال الحرب، تارة أخرى.
ومع ذلك، ثمة صورة كانت حاضرة دائماً في ذهن ومخيّلة المسؤولين الإسرائييلين، ولطالما قضّت مضاجعهـــــــــــم خلال الحرب، صورة جرى التعبير عنها ونشرها في أكثر من وسيلة إعلامية إسرائيلية، وعلى لسان أكثر من مسؤول إسرائيلي، وهــــــــي صورة السيد نصر الله خارجاً بعد الحرب من بين الأنقاض رافعاً شارة النصر يخطـــــــــب في الحشود المتدافعة خطبة النصر، وهي الصورة ـــــ النبوءة التي قد تكون الوحيدة التي صدق الإسرائيليون في توقعها طوال أيام العدوان.
وعلى الرغم من شدة العداء الذي يكنّه الإسرائيليون عامة تجاه نصر الله شخصياً، إلا أن شخصية السيد شكّلت معضلة عسيرة لهم، لا سيما لجهة تحليه بصفة الصدقية في نظر الإسرائيليين أنفسهم، الأمر الذي وضع وسائل الإعلام خاصة أمام إشكالية التعامل مع تغطية مواقفه، وخاصة أنّ الدعاية والإعلام الإسرائيلييْن عانيا، باعتراف الأوساط الإسرائيلية، قصوراً شديداً وعدم صدقية خلال الحرب، لدرجة أنّ قطاعات واسعة من الجمهور الإسرائيلي كانت ميّالة للاعتماد على تقارير حزب الله والثقة بصدقية بيانات أمينه العام، أكثر من ثقتها بصدقيّة سائر المُتحدثين الإسرائيليين، السياسيين والعسكريين على حد سواء.
وفي السياق عينه، أجرى الدكتور أودي ليفل، وهو محاضر بارز في علم النفس السياسي وعلاقــــــــــــات الجيش ووسائـــــــــــل الإعلام في جامعة «بن غوريـــــــــون» في بئر السبع، بحثــــــــــــــاً توصل فيه إلى أنه «نشأ وضع إشكالي؛ فبدلاً من أن يعتمد الجمهـــــــور الإسرائيلي على مُتحدّث قومي يُطلعــــــــــه ويُبيّن له مجريات الأحداث يومياً، أصبح الجمهور يُولي ثقته في هذا الصدد لزعيم العدو الذي نحاربه».
وتابع ليفل مُوضحاً، في مقابلــــــــة أجريت معه عن النتـــــــــائج التي توصل إليهــــــا في بحثه الذي نُشر أخيراً في إسرائيـــــــل، «في مواجهة زعيــــــــــم يتمتـــــــع بتأثيـــــــر إعلامي مثــــــــــل نصر الله، كان يتعيّن على المؤسسة الإسرائيلية الرسمية تجنيد ردٍّ بالمستوى نفسه على الأقل».
وأضاف إنّ زعيماً إعلامياً جيداً يجب أن يوفّر للمشاهد ثلاثة جوانب أساسية، وهي: الصدقية واليقين والترقّب. الصدقية بمعنى قول الحقيقة؛ واليقين بمعنى نقل واقع الأمور في الميدان؛ والترقب أو الانتظار، لسماع بياناته.
في سياق البحث (الاستطلاع) الذي أجراه د. ليفل، سُئل المشتركون عن الشخص الذي وفّر لهم الخبر اليقين بشأن مُجريات القتال، ومن هو الذي حظي بأقصى ثقة وصدقية لديهم. كانت النتائج قاطعة، أشار خلالها المستطلَعون إلى نصر الله باعتباره أكثرَ صدقية بكثير من سائر المُتحدّثين الإسرائيليين على اختلاف أنواعهم. كما اعتبرت النتائج أن خُطبَ نصر الله توفر للجمهور الإسرائيلي اليقين والترقّب على حد سواء.
وأكد ليفل، في استنتاجات بحثه، أنّ صدقية نصر الله لدى الجمهور الإسرائيلي أقوى بكثير من صدقية الزعماء الإسرائيليين، وبالذات بعد انتهاء الحرب.
وأضاف إنه نشأ خلال الحرب وضع نفسي غير مفهوم «فبدلاً من أن ينتظر الجمهور متحدثنا القومي ليوضح له ما يحدث كل يوم، وأن يبدو كمتحدث موثوق، حدث شيء غير مسبوق، إذ بات الجمهور يرى في زعيم العدو الذي نحاربه متحدثاً موثوقاً أخذ ينتظره ويترقب خطبه وبياناته».
وعن نظرة الجمهور الإسرائيلي إلى السيد نصر الله، يقول ليفل «صحيح أنّ هناك كراهية لنصر الله لكونه يمثل كل من يلحق بنا الأذى، ولكن ذلك يعكس نظرة من نوع معين لم تكن موجودة في السابق تجاه أيّ زعيم مُعادٍ. فالجمهور لم ينظر إلى نصر الله كشخص شرير مُثير للاشمئزاز، وإنما نظر إليه بنوع من الغيرة والحسد. كان لسان حال الإسرائيليين يقول: لقد أجاد نصر الله اللعبة، ليذهب إلى الجحيم... ولكن يا ليت كان لدينا زعيم كهذا».
ويذكر ليفل توصيفات أخرى في الخطاب العام الإسرائيلــــــــي ترتبـــــــط بصدقية السيد نصر الله، من قبيــــــــل «صاحب كلمة» و«يمكن إبرام صفقـــــــة معـــــــــه»، وغيرها من العبارات التي تؤكد القناعة بصدقيته. كمـــــــــا يؤكد ليفل أنّ نصر الله ما زال يُعد في نظر الجمهور الإسرائيلي «شخصية تُولد الإلهام والحســــــــد».
شخصية نصر الله دفعت العديد من الخبراء الإسرائيليين إلى محاولة الغوص فيها لسبر أغوارها والوقــــــــوف عند سر جاذبيتها، حتى للإسرائيليين، وفي خضم الحرب معهم. وهذا بالفعل ما دفع الدكتور تسفي برئيل، معلّق وخبير الشؤون العربية في صحيفة «هآرتس»، إلى خوض محاولة كهذه من خلال دراسة نُشرت في مجلة «العين السابعة» المتخصصة في شؤون الإعلام،
العدد 64.
ومن جملة ما أشار اليه برئيل، أن نصر الله «أرغم دائماً كل من يتابع الحرب، ولا سيما من يُغطي أخبارها ويحلّلها، على الالتصاق بشاشة التلفزيون، وإسكات أيّ ضجة حوله، وتحضير قلم وورقة وآلة تسجيل، وقطع خط الهاتف، وتكريس جسده وروحه للإصغاء الى الأمين العام».
وأضاف برئيل إن الظهور الإعلامي لنصر الله «بالغ الأهمية إلى درجة أنه عندما يغيب عن السمع أكثر من يومين تبدأ مباشرة الشائعات والتكهنات عن مصيره، وليس أقل من ذلك عن مصير الحرب. وعندما كان يظهر، كان يجري تحليل كل نقطة عرق في وجهه، وتسريحة ولون شعره، والأثاث الذي يجلس عليه وخلفية الصورة التي
تظهر».
وحاول برئيل تحليل طبيعة النظرة الإسرائيلية إلى نصر الله، فقال إنه «مثّل في نظر وسائل الإعلام الإسرائيلية، وفي نظر الجمهور الإسرائيلي أيضاً، ثلاث شخصيات مختلفة: عدوّ مرّ وقائد جبهة الكاتيوشا، ومحلّل للخطوات العسكرية، ومحلّل ـــــــ مراقب للمجتمع وللجيش الإسرائيليين». وبحسب برئيل، فإنه في كل رسالة أو مقابلة خلال الحرب، عرف المعلّقون الإسرائيليون أن ثمة فصلاً خاصاً موجهاً إليهم، أي إلى الجمهور الإسرائيلي.
ويرى برئيل أن الظهور الإعلامي لنصر الله ما كان ليُكتب له الحصول بهذه الصيغة خلال الحرب الأخيرة لولا بناء هذا الظهور طوال السنين الماضية في وسائل الإعلام الإسرائيلية.
وبحسب برئيل، فقد تمكن نصر الله من أن يكسب صفة الرجل الصادق، الذي ثمة تأثير كبير جداً لكلامه على حياة مئات آلاف الإسرائيليين وعلى دولة إسرائيل كلها.
وأضاف برئيل «في نظر كثيرين، اعتُبر نصر الله، عن حق، الشخص الذي طرد الجيش الإسرائيلي من لبنان، وأنشأ منظومة ردع هائلة لا مثيل لها في أي من الدول العربية التي تحدّ إسرائيل. وباختصار، اعتُبر نصر الله، رئيس دولة يتمكن للمرة الأولى من كسر مُسلّمة متجذرة في أوساط وسائل الإعلام الإسرائيلية والجمهور الإسرائيلي: زعيم عربي غير ثرثار، لا يكذب، دقيق ويستحق كل ثقة، إلى درجة أدّت إلى إثارة هلع وذعر رئيس سلطة البث الذي أمر بوقف عرض خطابات نصر الله كما لو أنها سلاح حقيقي».
ولم يكتف برئيل في تحليله لشخصية نصر الله، بالتركيز على صدقيته، فتطرق إلى إلمامه بالشأن الإسرائيلي، مشيراً إلى أنه في كل مرة من المرات السبع التي ظهر فيها الأمين العام لحزب الله خلال الحرب، «أظهر نصر الله إلماماً وخبرة كبيرة، ليس في ما يتعلق بالمزاج الذي يسود المجتمع الإسرائيلي فحسب، بل أيضاً بصعوبات حياة المدنيين، وبالقرارات السياسية والعسكرية التي ليس لها طابع تكتيكي مباشر، مثل تعيين اللواء موشيه كابلنسكي فوق رأس قائد المنطقة الشمالية اللواء أودي آدم، وكذلك بطبيعة استيعاب الجمهور الإسرائيلي لكلامه».
وفي إشارة بالغة الدلالة تعبّر عن تبدل مواقع المعرفة للمرة الأولى بين العرب وإسرائيل طوال سني الصراع، قال برئيل إن «التكتيك الذي يتبعه نصر الله هو وليد المعرفة شبه العميقة، وعن قرب، للمجتمع الإسرائيلي، وهي معرفة تفتقر إليها المحافل العسكرية الإسرائيلية التي تشتغل خصوصاً على تحليل التحركات العسكرية، أو تسلح حزب الله، لكنها تهمل تحليل المجتمع في الدول
العربية».
ونظراً للتأثير الكبير الذي تتركه الإطلالات الإعلامية لنصر الله على الرأي العام الإسرائيلي، انبرت خلال الحرب وبعدها أصوات كثيرة تطالب بعدم السماح بظهوره الإعلامي على شاشات التلفزة الإسرائيلية، وبدأ كثيرون يتساءلون «ماذا يفعل نصر الله على شاشاتنا؟ لماذا تمنحون منصة للعدو؟ ألا يخدمه هذا الأمر؟» (موقع أوميديا على شبكة الإنترنت، أوري فاز، 13/8/2006). وقد فعلت هذه الحملة فعلها وتوّجت بصدور قرار عن المدير العام لسلطة البث في السادس من آب عام 2006، موطي شكالر، يمنع بموجبه مواصلة بث خطابات نصر الله في بث حي، ومن دون دراسة.
وعلّل شكالر قراره بأن نصر الله «يستخدم الحرب النفسية، وعلينا ألا نساعده، وألا نسمح له بإضعاف المعنويات القومية»، معترفاً في الوقت نفسه بأن «كلام نصر الله مقنع وأنه يتميز بكلامه الفصيح والموزون جيداً، الأمر الذي يجعل من الصعب على المعلّقين التصدي له» (أوري فاز، 13/8/2006).
وقد أثار هذا القرار نقاشاً واعتراضات، منها ما جاء ضمن خانة ضرورة معرفة العدو، ومنها ما جرى تبريره بأن امتناع محطة ما عن نقل خطابات السيد نصر الله، سيدفع المشاهدين إلى الانتقال لمشاهدته على محطة أخرى منافسة، وهذا ما يُضر بالمحطة الممتنعة عن البث، وفق ما قاله الإعلامي الإسرائيلي المشهور، موطي كيرشنباوم، في مقابلة مع إذاعة الجيش الإسرائيلي، في السادس من آب عام 2006. وفي هذا اعتراف واضح بالقيمة الإعلامية التي تحظى بها الإطلالات الإعلامية لنصر الله، وهي قيمة تنبع، كما تؤكد الأوساط الإعلامية والسياسية والعسكرية الإسرائيلية، من الصفات التي تتحلى بها شخصيته، التي جعلته أقوى من الرقابة الإسرائيلية، وجعلت كثيراً من الإسرائيليين يتخطون حاجز العداء معه ويتابعون، لا بل ينتظرون مواقفه وأقواله وأفعاله، ليبنوا على أساسها وليحكموا وفقها، متجاوزين بذلك كل ما يصدر عن قادتهم ومسؤوليهم، ومتمنين لو أن لديهم «حسن نصر الله خاصتهم» كما عبّر الكثيرون.