غسان سعود
«أبو الياس» يتكئ على رصيد خدماتي ضخم وماكينة «النادي» تعمل على مدار 12 شهراً

قبل أسابيع قليلة، كان لبنانيون كثر يعتقدون بأن دور نائب رئيس مجلس الوزراء السابق النائب ميشال المر قد انتهى سياسياً. وفي السياق نفسه، كان فريق «الأكثرية» النيابية، منذ وصوله إلى السلطة، يتصرف مع حزب الطاشناق كإرث أرمني «مضى عليه الدهر»، لا يستحق تمثيله بوزير في الحكومة. ولكن مع اندلاع الصراع، على تحديد الأحجام السياسية، في المتن، تحوّل أهل «العمارة» و«شاكوزيان»، مجدداً، إلى الرقم المتني الأصعب الذي يكاد يستحيل على طرفي الصراع حسم المعركة الانتخابية من دونه. ويؤكد متابعو الانتخابات الفرعيّة في المتن أن «أبو الياس» و«الحزب» يشكلان في هذه المعركة أكثر من «بيضة القبان» بكثير.

«أبو الياس»

حتى الأسبوع الماضي، لم تكن ماكينة المر قد بدأت العمل الجدي، وكانت حال الاسترخاء لا تزال طاغية على «العمارة»، مركز المر الانتخابي، التي عادة ما تتحول في المواسم الانتخابية إلى «خلية نحل»، بقيادة «دولة الرئيس» وفي حضوره. ويعزو المطلعون سبب هذا الاسترخاء إلى رهان «أبو الياس»، بداية، على إمكان التوصل إلى حل توافقي يجنّب المنطقة «كأس الانتخابات المرّة». بعدما تبين للرئيس أمين الجميل استحالة فوزه من دون مباركة العماد ميشال عونولكن بعدما تأكد اتجاه المعركة صوب الحسم الانتخابي ــ إلا إذا أبطل مجلس شورى الدولة الانتخابات ــ فمن المؤكّد أن الماكينة ستنطلق بأقصى قوتها، و«يومين لأبو الياس في المتن كفيلان بخربطة كل التوقعات، واستعادة كلّ من ضلّ الطريق» بحسب ما يقول، بثقة، أحد المسؤولين عن ماكينة المر الانتخابية. ففي نظر «محازبيه»، يشكل عضو تكتل «التغيير والإصلاح» النائب المر «حزباً متكاملاً قائماً بذاته». ويعيد هؤلاء قوته في المتن إلى أسباب عدة:
أولاً، رصيده الخدماتي الضخم بين المتنيين، خلال أربعة عقود من العمل السياسي، الذي يصل في بلدته بتغرين، مثلاً، إلى نحو ألف وظيفة.
ثانياً، اعتماده خلال وجوده في السلطة خطاً سياسياً شبه جديد آمن به متنيون كثر، إضافة إلى انضواء معظم مؤيدي الرئيس إميل لحود والنواب السابقين تحت عباءته.
ثالثاً، الدور الداعم للمر الذي تلعبه التجمعات العائلية والجمعيات المناطقية، وخصوصاً أنه وقف طوال العقد الماضي خلف إنشائها وتعزيز وجودها في المتن.
رابعاً، العلاقة الشخصية بين «دولة الرئيس» وناخبيه الذين يتابع مشاكلهم عن كثب.
ويحرص «أبو الياس»، الذي «يمون» على أكثر من 13 ألف مقترع في دائرة لا يتعدى عدد المقترعين فيها الـ 85 ألفاً، على الإشراف بنفسه على كل التفاصيل المتعلقة بعمله السياسي، ويحاسب ماكينته الخدماتية ـــ السياسية ـــ الانتخابية على كل خطأ يرتكب، مهما صغر حجمه. ويستخدم حساً فكاهياً لافتاً في حواره مع أنصاره، متعمداً «تسمية بعض الأشياء بأسمائها» وكشف أسرار يندر عارفوها، بهدف الإيحاء للمحيطين به بأنهم فريق واحد. وهو، خلال الإعداد للانتخابات، يعمل أكثر من 16 ساعة متواصلة. ويعطي مواعيد لبعض المتنيين عند الثانية فجراً. وكثيراً ما يردد أهل «العمارة» أن زعيمهم لا يرتاح ولا يريح، وهو، في مثل هذه الأيام، «آخر رجل ينام في المتن».
وتعد ماكينة المر، بحسب المراقبين، الرابعة في المتن لجهة الحجم بعد التيار الوطني الحر، الكتائب اللبنانية، وحزب الطاشناق. وتتوزع «المفاتيح» بين «العمارة» في الساحل و«مركز الدراسات» في بتغرين. وهو يحرص، شخصياً، على رغم انشغالاته الكثيرة، على الاطلاع على كل شاردة وواردة تحصل في دائرته، حتى إنه يكاد يعرف أسماء كل ناخبيه! وتزخر ذاكرة أجهزة الكومبيوتر في مكتبه بمعلومات عن مختلف العائلات المتنية والأشخاص المعنيين بمتابعة الناخبين. ويلفت أحد أصدقائه إلى عشق «دولة الرئيس» لإطلاق بالونات الاختبار، وكان آخرها تحفظه عن إعلان موقف واضح من الانتخابات الفرعية حتى إعلان الرئيس أمين الجميل ترشحه، وتصعيده الكلامي لدرجة يصعب معها التراجع.
ويعتبر المر أقدم اللاعبين على الساحة الانتخابية، إذ دخل هذا المعترك عام 1960 ضد ابن عم والده النائب والوزير السابق غبريال المر فحصل الأخير على 2000 صوت فقط مقابل 15 ألفاً لميشال المر، الذي خسر في تجربته الأولى أمام النائب الراحل ألبير مخيبر بفارق مئتي صوت فقط. وعام 1968، انتخب المر للمرة الأولى نائباً عن المتن. ثم عيّن وزيراً في حكومات 1968و1977 و1980 قبل أن «يهندس» لقاء إهدن الشهير عام 1985 بين الرئيس سليمان فرنجية و«القوات اللبنانية» بقيادة الوزير السابق إيلي حبيقة، كخطوة تأسيسية للاتفاق الثلاثي، الذي دفع ثمنه نسفاً لقصره في بتغرين، ثم نفياً طوعياً إلى باريس. ليعود في أول حكومة بعد الطائف وزيراً للدفاع، ويحافظ على موقعه كنائب رئيس لمجلس الوزراء أكثر من عشر سنوات. دعّم خلالها أسس شعبيته في المتن، أو ما دأب البعض على تسميته «إمارة المر» في جبل لبنان. وهكذا نال عام 1996 نحو 67 في المئة من أصوات المقترعين، و66 في المئة عام 2000 و58 في المئة عام 2005. فيما حاز مرشحوه إلى الانتخابات البلدية والاختيارية عام 2004 نحو 60 في المئة من الأصوات، وفازت لوائحه في 42 بلدية متنيّة من أصل 48، وفي 130 مختارية من أصل 160.
ويتوزع نفوذ «أبو الياس» بين ساحل المتن وجبله ووسطه، فيما يحرص خلال الاحتفالات الكبيرة على التسليم شخصياً على المشاركين. وللدلالة على الحراك السياسي للرجل، يذكّر أحد المتابعين بأن رسّاماً كاريكاتورياً رسم عام 1982 المر فوق تعليق جاء فيه: «أنا نص دولتو... ونص دولتو أنا...»، فيما «الواقع الأكيد منذ قرابة خمسين عاماً، بحسب المتابع نفسه يمكن أن يختصر بالقول عن لسان المر: «أنا نص المتن... ونص المتن أنا...». ويقول أحد أصدقاء المر إن كثيرين غالباً ما يعتقدون بأنه قد انتهى سياسياً، ليعود ويفاجئهم بحضوره الكبير. ويذكر في هذا السياق أن بعض الكتائبيين وزعوا قبل انتخابات 2005 بياناً قاسياً ضد الرجل وصفه بـ«العميل السوري ميشال المر السيئ الذكر»، واتهمه بارتكاب «جرائم بحق الوطن والمواطن»، إلا أن الرئيس الجميل اتصل به عند الثانية وخمس عشرة دقيقة بعد ظهر يوم الانتخابات، عبر أحد الوسطاء، طالباً التوسط لـ«تمرير» بضعة آلاف من الأصوات لنجله الراحل للحؤول دون سقوطه أمام النائب السابق نسيب لحود.
يتوقع العاملون في ماكينة المر أن تكون قدرتهم التجييرية في الانتخابات الفرعية المقبلة مماثلة لما كانت عليه عام 2005، أي 13 ألف صوت. والحديث، بحسب هؤلاء، عن تسرب أصوات «مريّة» لمصلحة حزب الكتائب مجرد أحلام، وخصوصاً أن أنصار المر الذين اقترعوا لمصلحة الجميّل عام 2005 إنما فعلوا ذلك بطلب من المر وحلفائه. كما إن الانقسام السياسي المتحكم باللبنانيين منذ سنتين كان سيدفع الكتائبيين المؤيدين للمر إلى الابتعاد عنه والالتزام بموقف حزبهم، وخصوصاً بعد اغتيال الوزير الجميّل.

«الطاشناق»

وإذا كان نفوذ المر يطغى على بلدات متنية أساسية مثل البوشرية (3815 مقترعاً عام 2005)، بيت شباب (2484)، الشوير (1817)، عمارة شلهوب (737)، عينطورة (1767)، بسكنتا (3839)، وبتغرين (2014) ، فإن حليفه منذ أربعين عاماً حزب الطاشناق يمده بالدعم اللازم من برج حمود (11587 مقترعاً عام 2005)، أنطلياس (2339)، جل الديب (2111)، والزلقا (1476). وإذا كان البعض يتشكك في قدرة المر التجييرية، فإن أحداً لا يناقش في حفاظ الطاشناق على قوته الشعبية وقدرته على رفد حلفائه بستة آلاف مقترع على الأقل مهما تكن ظروف المعركة. علماً بأن الحزب جيّر عام 2005 زهاء ثمانية آلاف ناخب. ويجمع الخبراء أن الطاشناق هو الطرف السياسي الوحيد في المتن الذي يمكن تحديد حجمه بدقة، مهما كانت الظروف. وتبدو ماكينة الحزب، الأقدم من حزب الكتائب، مطمئنة إلى عملها، وخصوصاً أنها لا تتوقف عن العمل 12 شهراً. ويقول الأمين العام للحزب آغوب مختاريان إن صدقية «النادي»، كما يطلق الطاشناقيون على حزبهم، وتاريخه «يعززان ثقة الأهالي به، وخصوصاً أن قادته لم يتلكأوا يوماً في الاهتمام بشؤون مواطنيهم وتلبية معظم حاجاتهم».
ويشيد أرمن المتن بتجربة 2005، مؤكدين أن التحالف مع المر والتيار ترسخ أكثر، «وباتت القواعد مشتركة، يصعب فصل مسارها ومصيرها، وخصوصاً بعدما وفى العماد عون بتعهداته ورفض المشاركة بحكومة لا يحظى أرمن الطاشناق بتمثيل محترم فيها». ويستغرب مختاريان ترقب البعض لتدني عدد المقترعين الأرمن لعدم اكتراثهم بالمعركة على المقعد الماروني، مؤكداً أن الأرمن «سيعبّرون في الخامس من آب عن موقفهم كمجموعة تريد أن تشارك في صناعة القرار اللبناني، وترفض إصرار البعض على معاملتها بدونيّة»، مؤكداً أن الأرمن «يلتزمون حين يعطون كلمة، وهذا ما سيلمسه المتشككون في الخامس من آب».
ومعلوم أن «الطاشناق»، الممثّل في المجلس النيابي منذ عام 1942، عبر النائب موسيس دير كالوستيان عن دائرة بيروت، أوصل عام 1947 إلى الندوة البرلمانية نائبين من أصل 55، وعام 1951 ثلاثة نواب أرمن أورثوذكس ونائباً أرمنياً كاثوليكياً. وخاض عام 1968 الانتخابات في دائرة المتن الشمالي وفاز مرشحه أندريه طابوريان على منافسه ديكران طوسباط بفارق شاسع في الأصوات. وتكرر الأمر نفسه عام 1972، علماً بأن أحداثاً دموية وقعت عام 1979 بين «الطاشناق» وبعض الفصائل الكتائبية في منطقة برج حمود. وبعد الحرب، مكّن تحالف المر ــ «الطاشناق» الأخير من الحفاظ على تمثيله المتني، فيما أدى موقف الرئيس الشهيد رفيق الحريري من أكثر الأحزاب الأرمنية تمثيلاً إلى غبن كبير بحق الحزب والطائفة.
وبالعودة إلى المعركة الحالية، يأمل الحزب بأن تكون العملية ديموقراطية سلمية، وينبّه مسؤولوه إلى أن أي استفزاز لقواعدهم أو افتعال مشاكل للتضييق على بعض المراكز سيترجم فوراً مزيداً من الحماسة في الاقتراع.
وأخيراً، يبدو واضحاً وسط قواعد الطاشناق والمر أن معركتهما ستكون ذات شقين: دعم مرشحهم من جهة، وإعادة الاعتبار لوجودهم في المتن من جهة ثانية، بعدما تمادى البعض في اعتبارهم ملحقين أو مجرد مستتبعين يمكن ضمهم باتصال من هنا أو نصيحة من هناك.