strong> ثائر غندور
لحظات قليلة تهدّم كلّ شيء... قال هذه الكلمات وصمت. من الضروري أن يصمت، فهو شعر وكأن دموعاً حارقة ستخنقه. أشاح بوجهه بعيداً وكأنه يريد أن ينهي المحادثة.
لم يدرِ منذ سنوات أنه يستطيع أن يستعيد مراحل من مراهقته في «لحظات ثقيلة الدم». نزلت دمعة رقيقة على خدّه الأيسر. نظر إلى الأرض. لم يكن يريد أن ينتبه أحد إلى تلك الدمعة، تركها تجري على مهل حتى وصلت إلى شفته العليا، مدّ لسانه «ولحسها»، طعمها حامض جداً. يشبه طعم تلك الكلمات التي خرجت من فمه وتبعها ردّ بالإيجاب منها فصمت صمتاً طويلاً جداً دام دقيقتين.
هكذا إذاً، رجولته لم تمنعه من البكاء. خشونة سنوات الدراسة الخمس في كلية العلوم في الجامعة اللبنانية لم تمنع تلك الدمعة «اللعينة» من ترك حجرها.
اعتاد وسام (24 عاماً) أن يخطّط لكل مرّة يقرّر فيها دخول «مَشكَل» مع والده. ينظّم في دماغه ما يريد أن يقول. يفكّر باحتمالات ردّ والده، وكيف سيتعامل مع كل ردّ. كان يريد أن يكون «رجلاً» ويكسر كلمة والده. فعلها مرات عدّة، عندما قرّر أن يدرس في كلية العلوم بدلاً من أن يسافر إلى إيطاليا ويدرس الطب كما خطّط له الوالد. وعندما أقام علاقة غرامية مع زوجة جاره، وعلم والده بها وطلب منه قطعها، ردّ بالإيجاب، لكنّه لم يقطع العلاقة، إلّا حين انتقل إلى بيروت. وكانت المرّة الثالثة عندما انتظم في صفوف ذلك التنظيم اليساري «اللي ما بطعمي خبز»، كما يقول والده المقتنع بضرورة أن يلتحق ابنه بالمنظومة السياسية الطائفية، كما فعل هو، ليحمي رأسه... تكثر الحالات التي كسر فيها كلمة والده، لكنه فشل في كلّ مواجهة من «رأس إلى رأس»، وفي كلّ مرّة كانت «تكرّ» دمعة على خدّه.
أصرّ كثيراً على الفوز في هذا النوع من المواجهات حتى يُثبت لنفسه أنه مستقل تماماً عن والده، والمنظومة العشائرية التقليدية التي يمثلها. منذ سنة تقريباً فاز وسام بهذه المواجهة، والفضل لقوى 14 آذار. في ذلك اليوم دار نقاشٌ في المنزل عن جدوى بقاء سلاح حزب الله، فحسم النقاش بحدة: «هذا سلاح خارج شرعية الدولة ويجب إزالته». وسام غير مقتنع بهذه المقولة. لكن وجب قولها أمام والده.
تحوّل وسام إلى «دون جوان» خلال سنوات الدراسة الخمس في الجامعة (خمس لأنه رسب في السنة الأولى). انتقل كالفراشة في علاقاته من فتاة إلى أخرى. مرّت عليه أسابيع، كان فيها على علاقة بفتيات عدة. الحدّ الأقصى للعلاقات المتعددة وصل إلى ثلاث في وقت واحد. يتذكّر كيف كان زملاؤه في السكن «يحمونه» كي لا تكتشف الصبايا الأمر.
لم تنحصر علاقته العاطفية في جامعة أو منطقة محدّدة. وزّع نشاطه بين كليات الجامعة اللبنانية وعدد من الجامعات الخاصة «ولذلك رسبت في السنة الأولى». استمرّ في هذا النوع من العلاقات لمدة ثلاث سنوات ونصف سنة. استُنزف إلى الحدّ الأقصى، مادياً ولفظياً، «لم يبقَ كذبة إلّا واستخدمتها».
«في يوم مشؤوم»، كما يقول وسام، تعرّف بـ«صاحبته» الأخيرة. كان في زيارة لأحد أصدقائه في معهد الإدارة والكومبيوتر الجامعي (جامعة BCU). تعرّف بجنان خلال جلسة «قهوة ودخان ونكات».
مرّت علاقتهما، كما أي علاقة، بمراحل مدّ وجزر. اختلفوا واتفقوا، «لكنّها كانت أياماً جميلة». في شهر آب كان يُفترض أن تدخل علاقتهم شهرها العشرين. لن يحصل هذا الأمر، والسبب: «لسانك فلتان»، قالتها جنان خلال نوبة بكاء. صُدم وسام لهذا الجواب، «فعندما تعرّفت بها كانت كل مسبّة أكبر من الثانية». كرّر ما قالته له «فردّت بالإيجاب». جنان لم تعد تردّ على اتصالاته المتكرّرة. يريد أن يعرف السبب الحقيقي وراء قطع علاقتها به، وهو الذي أحبّها بحق، «وحتى اليوم ما بعرف اتطلّع على بنت ثانية». يحلّل الأمر بهدوء: «كانت تقول لي إنّ أمها غير راضية تماماً عن علاقة ابنتها السنية بشاب شيعي، وجنان كانت تُعاند». لكنّها لم تعد تستطيع الصمود في وجه هذا الضغط الذي يترافق مع ضغط من نوع آخر: «سنة من دون عمل».