راجانا حمية
ليل الأوّل من آب من العام الماضي، كان مستشفى دار الحكمة في مدينة بعلبك يشتعل وسط حزام النار الذي رسمه جنود النخبة الإسرائيليون، بحثاً عمّا يعتقدون بوجوده وتنفيذاً لرغبة قائدهم دان حالوتس في اختراق عمق «عاصمة حزب الله» من دون حواجز. 17 شهيداً سقطوا في الهجوم الثلاثي الذي شنّته فرقة النخبة الإسرائيلية على محيط مستشفى دار الحكمة وبلدتي الجمّالية وإيعات في مدينة بعلبك، انتقاماً من حزب الله

قبل ساعات من ليل الأول من آب غرقت بعلبك في صمتها الحذر، فطائرة الاستطلاع «MK» التي لم تفارق سماءها كانت تنذر بشيء ما، مجزرة أو إنزال، ولكن متى وفي أيّة ساعة قد تنفّذ إسرائيل ما وعدت به أهالي المدينة منذ ساعات الصباح الأولى عندما أنبأت «دولة إسرائيل» الأهالي عبر خطوط هواتف المنازل «بما هو أكبر من طاقة حزب الله»، مهدّدةً بتدمير المدينة «أنتم تقولون إن إسرائيل أوهن من بيت العنكبوت، سنريكم اليوم».
«سنريكم اليوم» كانت كافية لاستنفار حالة القلق لدى الأهالي، ولا سيّما من حظي بـ«شرف» الحديث مع «دولة إسرائيل»، المشدوهين بالجملة التي يمكن أن تغيّر مصير «عاصمة حزب الله». فقد تكون ليلة الأوّل من آب بداية تدميرٍ كاملٍ للمدينة بمن فيها وبما تحويه، أو على الأقل أن تكون أمسية لولائم متفرّقة من الموت المحتّم.
لم تطل ساعات الانتظار، وعند الساعة التاسعة والنصف مساءً انطلقت أولى الشرارات في منطقة «تلّ الأبيض»، أعقبها قصف مركّز وعنيف على محيط المستشفى وأحياء المدينة، وخصوصاً حي العسيرة.
العاشرة مساءً، كانت «دار الحكمة» لا تزال غارقة في صمتها الثقيل بعدما أمر مدير المستشفى بإخلائه قبل يومين من الإنزال. ولعلّ السبب الذي دفع المسؤولين لاتّخاذ قرار الإخلاء، كما أشار نائب مدير المستشفى علي مرتضى، هو المعلومات الواردة في أحد التقارير الإسرائيلية التي نُشرت قبل أيّام من الإنزال وتفيد بأنّ المستشفى تحوي معدّات وتجهيزات عسكريّة لـ«حزب الله».
رحل من في المستشفى أو «رُحّلوا» باستثناء ثمانية أشخاص اختاروا البقاء تحت القصف لإسعاف الحالات الطارئة، ومن بينهم طبيب في قسم الأشعّة وآخر في المختبر وثالث في غرفة العمليات وقسم الطوارئ ومحاسب وحارس المستشفى وسائق الإسعاف ونائب مدير المستشفى والممرّض عاطف أمهز الذي سقط خلال المواجهات.
عشر دقائق في أحد ممرّات المستشفى عاشها الثمانية وسط الرعب والذكريات، واستعادوا خلالها صوراً وأشخاصاً ومواقف، ولم ينسوا أيضاً الشهادة، فالموت في تلك اللحظات كان أقرب إليهم من أصدقاءٍ في منطقة تل الأبيض يبعدون عشرات الأمتار.

«إنزال يا شباب»

بدأت الغارات تقترب من المستشفى مطوّقة محيطه بزنّار من النار، ما دفع الصامدين فيه إلى مغادرته والانزواء خلف الحائط المقابل للمدخل الرئيسي. انتظروا هناك، وهم لا يعرفون من أو لماذا، وعيونهم ترقُب لحظة انهيار المبنى. مرّت دقائق والشباب في الوضعية نفسها، يراقبون ويتذكّرون... ويتلون شهادة الموت. فجأة، سمع نائب المدير علي مرتضى «كسرة زجاج» في الغرفة المقابلة لهم، فوقفوا جميعاً دفعة واحدة ليروا ما يحصل، هالهم المشهد، ولا سيّما أنّها المرّة الأولى التي يواجه فيها معظمهم العدو على بعد أمتار قليلة... عشرات الجنود تبيّن في ما بعد أنّ عددهم فاق مئتين، فصرخ أحدهم «إنزال يا شباب، كيف بدنا نخبّر».
في تلك اللحظات، وقبل حسم الخيار بين المواجهة والرحيل، حمل الممرّض عاطف أمهز سلاح حارس المستشفى وبدأ برشق طلقاته «في العتم» في اتّجاه المبنى. فلم يتردّد مرتضى عندها في الطلب من رفاقه مغادرة المستشفى، على أن يذهب كل اثنين في اتّجاه. ذهبوا كلّ في اتّجاه وبقي عاطف يواجه مصيره خلف السور الذي يحضن بعد سنة على الغياب وردة حمراء واسمه، ممهوراً بعبارة «هنا مكان استشهاد الأخ المجاهد الممرّض عاطف نجيب أمهز». مصير اختاره قبيل ساعاتٍ فقط، عندما اتّصل بخطيبته التي تعمل معه أيضاً في المستشفى، قائلاً «هيفاء، معاشك معي بجيبتي والوصيّة بالبيت في...، سامحيني إذا بدر عنّي شيأمّا الباقون فقد استطاع بعضهم الفرار، باستثناء مرتضى ومرافقه في الرحلة، إذ تبعهما جنود «النخبة» وأطلقوا عليهما الرصاص، ما أدى إلى إصابتهما بجروح بالغة في أقدامهما. تركهما الجنود وعادوا إلى المستشفى للتفتيش عمّا كانوا يعتقدون بوجوده هناك، إذ قيل في تلك الفترة إنّ أهداف الإنزال تتعدّى مسألة المعدّات والتجهيزات التي ذكرها التقرير الإسرائيلي إلى ثلاثة أسبابٍ أخرى، لا تزال ذاكرة مرتضى تحتفظ بتفاصيلها، على رغم رعب تلك الليلة. يحلّل مرتضى، و«كلّه بحسب التصاريح الإسرائيلية»، فيعتبر أنّ عمليّة الإنزال «كانت تهدف إلى اختطاف عضو شورى «حزب الله» الشيخ محمّد يزبك، وإن لم ينفع الأمر فقد يجدون جرحى لـ«حزب الله» فيأسرونهم أو قد يجدون الأسيرين، في حال فشل هدفيهما اللذين نزلوا بالمئات لأجلهما».
أمّا عن الأسباب الأخرى لهذا الإنزال، يعرف مرتضى أنّ التسلّل الإسرائيلي إلى بعلبك هدف أوّلاً وأخيراً إلى تسجيل إنجازٍ سياسي أكثر ممّا هو عسكري، فجيوش «النخبة» تعلم جيّداً أن حزب الله أخفى في شكلٍ جيّد أسيرَي 12 تمّوز، وأنّ «جهاز الحزب لن يكون غبياً ليعتمد مستشفى دار الحكمة المتموضع على طريق دولية موقعاً آمناً لأيّ من قادته أو الأسرى، فالمستشفى بحكم موقعه الجغرافي ساقط من الناحية العسكريّة». وعلى رغم اعتماده في تحليلاته على «مصادر إسرائيليّة» لأسبابٍ هي الأخرى «أمنيّة»، إلاّ أنّه كان متيقّناً من أنّ عدد الجرحى الإسرائيليين «فاق أحد عشر وسقط اثنان من القتلى». ويعزو معلوماته «الموثوقة» إلى الآثار الفاضحة للدماء المنتشرة في غرف المستشفى وزواياه والأسرّة البيضاء في غرف العمليات والجدران والسطح... وغرفة التغذية. ولكن ما لم يستوعبه مرتضى هو «ماذا وجد الجنود في برّاد الموتى و«المنور»، محاولاً إقناع نفسه بأنّ الهستيريا قد تدفع في بعض الأحيان إلى الجنون، غير أنّ شيئاً آخر يسكن وراء تلك الهواجس، قد يدفع بنا إلى تصديق الرواية التي تداولها البعض خلال العدوان من «أنّ الجنود لم يكونوا وحيدين في معركتهم... هناك من ساندهم من إحدى الأماكن السفليّة في المستشفى، وربّما تكون مساندة بالمعلومات».

شهيد «الوعد الصادق»

إنّ الآخرين لم يكونوا وحيدين في مواجهتهم، فابن «الوعد الصادق» رضا مدلج «جرؤ» على ترك طفله «حيدر» ورحل. خرج رضا من المنزل المؤقّت الذي كانت تشغله العائلة في بلدة الجمّالية بعدما اشتدّ القصف في محيط منزلهم في «الأبيض»، واعداً إيّاها بالعودة كما الرفاق، إلاّ أنّ ما أضمره في نفسه تلك الليلة كان أقوى من البقاء إلى جانب والدٍ يحزنه الرحيل المفاجئ... أو الاعتراف لولده الأكبر حيدر بأنّه سيغيب تلك الغيبة الموحشة.
في تلك الليلة، عند العاشرة والنصف مساءً، تلقّى رضا اتّصالاً مبهماً، حمله على عدم متابعة حديثه مع والده والرفاق واستعدّ للرحيل. رجته زوجته بأن يبقى لتناول العشاء الذي كانت تعدّه ولكنّه خرج من دون أن ينظر إليهم وأغلق خلفه الباب. أحسّت الزوجة بأنّها لن ترى وجه رضا مجدّداً وبدأت تتآكلها الأفكار السوداوية، «إذا استشهد، ماذا سنفعل، وماذا سيفعل والده وحيدر ومحمّد علي والبتول، ماذا سأفعل أنا؟».

لم تفلح أسئلتها في الوصول إلى الجواب المحدّد، لأنّها تعرف مسبقاً أنّ رضا اختار ذلك الرحيل، فاستسلمت لدعائها وتلاوة بعض الآيات القرآنيّة علّها تحبس دموعاً توشك على الفرار. في تلك اللحظات، كان رضا يستعدّ للمواجهة، حمل سلاحه والذخيرة وجهاز «اللاسلكي» وتوجّه في سيّارته إلى «تلّ الأبيض»، وركنها في أحد «الكاراجات» على مقربة من المستشفى، ونزل. سار في طريقٍ ترابية خوفاً من اللقاء المفاجئ، إلى أن وصل إلى جانب «تنّورٍ» يبعد عشرات الأمتار عن المستشفى، فجلس هناك، محاولاً استراق السمع، ليعرف مكان تمركزهم.
في تلك الأثناء، أحسّ الجنود بحركاته، فبادر أحدهم إلى الصراخ «مين معنا؟» باللغة الفارسيّة. لم يجب رضا، وحمل جهاز اللاسلكي وطلب أحد «الإخوان» قائلاً «عم يحكوا معي إيراني»، فأجابه «ما عنّا إيرانيي». عندها استعدّ رضا لإجابته، فصرخ «معك حزب الله واتكلنا على الله». دارت الاشتباكات بين رضا... و200. وخلال المواجهة، ذكر بعض «الشباب» أنّ رضا اتّصل بعد نحو ساعتين على الاشتباك عبر جهازه قائلاً «معي جلبوط، ساندوني»، ومن ثم اختفى الصوت. هكذا يروي أبو رضا ما يعرفه عن حكاية ابنه الشهيد، وإن كان يطمع بعد عامٍ على حرب تمّوز بمعرفة المزيد من التفاصيل علّها تفي بعضاً من نهمه إليه، «مثلاً كم ساعة اشتبك مع الجيش وما كانت كلماته الأخيرة؟ وكيف كان خلال المواجهة؟».
يروي أبو رضا حكاية الابن الغائب، وعيناه تحتقنان بما يكفي من الدموع من دون أن تنذر واحدة منها بالخروج، خوفاً من الطفل القابع في حضنه. يلتقط أنفاسه ويكمل قصّته، مسترجعاً اللحظات التي سبقت الغياب «كان رضا يشعرني دائماً من خلال حديثه بأنّه سيرحل يوماً ما، فقبل استشهاده كان يقول لي «بحب كون ابن شهيد، حاج إنتَ ما بتحبّ تكون بيّ شهيد؟»، كان مسجّلاً في المقاومة استشهادياً، وعلى رغم معرفتي بالأمر، كنت دوماً أنظر إليه وكأنّها المرّة الأولى التي أراه فيها».
يشيح برأسه، محاولاً إخفاء الدموع عمّن يرقبه بنظراته، فيقول «الشهادة عزّ ونصر بس الفرقة صعبة كتير... وحيدر بعد ما تعوّد على الغياب». يلتفت إلى الطفل حيدر ويقول له «حكيها عن البابا»، فكانت أولى كلماته «حزنت كتير لأنّني لن أراه مجدّداً، على رغم أنّني لم أكن أراه كثيراً لأنه بضلّ بالجنوب، كان كتير منيح معنا ويكزدرنا، بس راح». لم يستطع حبس دموعه كما الجدّ: «اشتقت له، وجدّي يأخذني دائماً لزيارته، وفي بعض الأحيان أشكو له وأعاتبه على الغياب، أعرف أنّه يسمعني ويجيبني أيضاً». يصمت حيدر لحظاتٍ، محاولاً إيجاد كلمة تختصر ما يعتصر قلبه، فلم يكن لديه سوى «أحبّه وبس»، التي كانت كافية لتدمي قلب المفجوع إلى جانبه وتفضح عينيه.
اليوم وبعد عامٍ على الغياب، يحتفظ الوالد في صندوق زجاجي وضعه في صالون منزل رضا بالسلاح ومفاتيح السيّارة والمنزل والجامع... وفي جيبه بالصورة الصامتة التي ما عادت تشفي الغليل ولكنّها ستبقى.




حدث في 1 آب

كانت مدينة بعلبك محطّ الأنظار بعد الإنزال الإسرائيلي في مستشفى دار الحكمة وارتكاب مجزرتين في الجمالية وإيعات إضافة إلى خطف خمسة مواطنين من حي العسيرة لأن أحدهم يدعى حسن نصر الله.
جنوباً تمكن الصليب الاحمر من الدخول إلى بلدتي عيناتا وعيترون وأمكن إخلاء نحو عشرين جثة الى المستشفيات. ودعت بلدية صور والمستشفى الحكومي في المدينة إلى المشاركة في تأبين 95 شهيداً ودفنهم على سبيل الوديعة في المقبرة المؤقتة خلف المستشفى والتي باتت تضم أكثر من مئة شهيد. في هذا الوقت كان رئيس الوزراء الاسرائيلي إيهود أولمرت يعلن انتصار إسرائيل في الحرب، وقال «نحن ننتصر والمعركة تحقق إنجازات ربما لم يسبق لها مثيل. ولو أن المعركة تنتهي اليوم لكان بالوسع القول بالتأكيد إن وجه الشرق الأوسط قد تغير».
فيما رأت وزيرة الخارجية الاسرائيلية تسيبي ليفني أن «الضرر الأكبر الذي نجم عن مجزرة قانا ليس فقدان الدعم الدولي بل تراجع الحكومة اللبنانية عن اتفاق تبلور بمساعدة أميركية» مقارنة بين رئيس الحكومة اللبنانية فؤاد السنيورة والرئيس الفلسطيني محمود عباس «الاثنان زعيمان ضعيفان يفضلان عدم العمل فيما يقوم العالم بدفعهما إليه».
أما عسكرياً فقد أصيب وزير الدفاع الاسرائيلي عمير بيرتس بالصدمة بعدما استمع إلى الجنود الذين طلبوا منه إبعادهم عن القتال لأنهم غير مؤهلين لقتال كالذي دار في مارون الراس وبنت جبيل، طالبين تكليفهم مهمات تتلاءم مع قدراتهم العسكرية.




ستة شهداء في إيعات

مجزرة ثانية ارتكبت فجر الثاني من آب في إيعات، عندما أغارت طائرات العدو بعنفٍ على إحدى الخيم في البلدة التي تبعد نحو ثلاثة كيلومترات عن مستشفى دار الحكمة، وأسقطت ستّة شهداء، ذنبهم الوحيد أنّهم مزارعون فقراء نذروا سواعدهم وعرق أجسادهم كفاف يومهم.
ستّة سقطوا دفعة واحدة بعيداً عن خيمتهم وهم يهربون من القصف الهستيري، فاستشهد الوالد طالب خلف الشبلي والوالدة مهى العيسى والأطفال مهند ومؤيد ومحمد وأسماء، فيما بقي مثنّى ومصعب والبتول وحيدين ينتظرون وصول عمّهم من منطقة الرقّة في سوريا، الكفيل الوحيد بعد الغياب الجماعي للعائلة.
معاناة الأطفال الثلاثة كانت أصعب من هذا الرحيل، إذ لم تبادر أيّ من الجهات الرسميّة إلى التعويض عليهم لأنهم ليسوا لبنانيين، ومن وافق على دفع التعويضات لهم مثل وزارة المهجّرين اشترط الحصول على ثلاثين مليون ليرة لبنانيّة من أصل المبلغ الذي يقدّر بـ120 مليون ليرة، بمعدّل «5 ملايين على الراس»!. غير أنّ الكفيل اللبناني للقضيّة أمين سر بلديّة إيعات علي عبد الساتر الذي وكّله عمّ الأطفال بسبب عدم قبول كفالته في الدولة اللبنانيّة، لم يوافق على هذا «العرض» وعاود تقديم الأوراق إلى معنيين «آخرين» في الوزارة منذ تشرين الأوّل الماضي، ولم يرد إلى الآن جواب شافٍ للقضيّة، وربّما لن يكون، كما يتوقّع عبد
الساتر.




كادت تكون مجزرة... لولا الكلب

عُبادة كسر

على مسافة قريبة من مستشفى «دار الحكمة»، كان يسكن محمد الجدوع (من البدو الرُحّل الموسميين) في خيمة تفصلها عن المستشفى، الطريق الدولية بمسافة تزيد على 500 متر.
ليلة الرعب اجتاحت المدينة وضواحيها. استغرق الإنزال أكثر من 6 ساعات. «ملأت السماء طائرات حربية ومروحية وأخرى للتجسس، الرصاص يمشّط كل مكان. الظلام والخوف لفّا المكان، الصواريخ الذكية تنهمر على محيط المستشفى، وعلى مرتفعات بعلبك» كما يصف محمد الجدوع.
يتابع: «عند منتصف الليل بعد أن بدأ الإنزال شعرت مع عائلتي بأن الخيمة بدأت تهوي وكادت تُقتلع من مكانها لكثافة الطائرات المروحية التي تُخيم فوق رؤوسنا وعلى علوٍ منخفض جداً». هرع الجدوع مع زوجته وابنتيه (الأولى في السابعة من عمرها والثانية في الخامسة) وابنه الرضيع خارجاً: «خرجنا من الخيمة ونحن نركض دون توقف، ابنتي الكبرى تتمسك بعباءتي وانا أحمل شقيقتها، فيما زوجتي تحتضن الرضيع. في البداية تخيّلت زوجتي أن السماء سوف تمطر ظناً منها أن البرق والرعد يتبعهما مطر، فهي لم تكن مدركة أن البرق نتج عن صاروخ والرعد كان صوته». قطعوا مسافة لا يستهان بها ركضاً وكانوا جميعاً يشعرون بأن أحداً كان يتبعهم في كل اتجاه.
فجأة لمعت السماء مرة ثانية واستهدفتهم طائرة الأباتشي بصاروخ سقط بعيداً عنهم عدة أمتار فقط: «عندها أدركت أن أحداً يطاردنا لأن الطائرات تستهدفنا، لذا اختبأنا في حفرة وبتنا فيها حتى شروق الشمس مع انتهاء الإنزال. عندها فقط هدأت الأصوات وعمَ السكون المكان».
خرج محمد من الحفرة وتفقّد المكان جيداً ليكتشف أن من تبعهم كان كلباً هارباً من الطائرات والرصاص وخائفاً مثلهم، وأن الصاروخ استهدفه بدلاً من العائلة.
فدى الكلب بروحه العائلة الضعيفة وإلا ربما كانت قد أُضيفت الى لائحة المجازر واحدة تحت عنوان مجزرة عائلة الجدوع. يضحك محمد قائلاً: «فدانا الكلب بحياته، حيث كان من المحتمل أن نُضاف إلى لائحة مجازر حرب تموز».