جوان فرشخ بجّالي
تعمل المديرية العامة للآثار، منذ سنتين تقريباً، على أن تجعل من حفريات الإنقاذ عمليات بحث علمية تحافظ قدر المستطاع على المكتشفات الأثرية، وتبحث في الوقت ذاته عن مموّلين لعمليات التنقيب

لم يعد مشهد علماء الآثار الذين يجوبون شوارع بيروت بغريب على سكانها. فقد اعتادوهم ينبشون الأرض بحثاً عن آثار تعيد كتابة تاريخ العاصمة. لكنّ عمليات الردم والجرف التي جرت في وسط بيروت، ولّدت لدى الأهالي خشية وحذراً في تعاملهم مع أهل هذا الاختصاص، وهم يترصّدونهم ويتوقعون الأسوأ منهم دائماً. حتى إنهم في بعض الأحيان قد يتصلون بوسائل الإعلام لإطلاعهم على الاكتشافات الأثرية لعلّها «لا تضيع في البحر» كما يقولون. خوفهم ولّدته خبرتهم السابقة والواقع بأن القليل القليل مما عُثر عليه في بيروت قد بقي شاهداً على الحفريات الأثرية.
ولكن، منذ سنتين تقريباً والمديرية العامة للآثار تعمل بجهد لتغيير هذا الواقع ولكي تصبح حفريات الإنقاذ عمليات بحث علمية تحافظ قدر المستطاع على المكتشفات. يشرح مسؤول التنقيبات الأثرية في لبنان أسعد سيف«أنه للوصول إلى هذا الهدف، تعمل المديرية على أكثر من صعيد. فمن الجهة العلمية يدرّب مختصّون متعاقدون مع المديرية فريقاً واسعاً من طلاب الآثار على طرق التنقيب المتّبعة في حفريات الإنقاذ» وهو يدفع بدل أتعاب يومي لهؤلاء الطلاب يُخَصّص لهم من ميزانيات الحفريات. ويؤكد سيف «أن بعضاً منهم أصبح محترفاً في هذه الحفريات وقادراً على إدارة جزء منها». حتى إن المديرية «باتت تحثّ هؤلاء الطلاب على إنهاء دراساتهم الجامعية وإدخال هذه المكتشفات في أبحاثهم وأطروحاتهم ليصبحوا أهل اختصاصات، لبنان بأمسّ الحاجة إليهاهذا من الجهة العلمية، أما بالنسبة إلى المحافظة على المكتشفات فيشرح سيف «أنّ العمل جارٍ مع المقاولين وأصحاب العقارات لكي يموّلوا ويسهّلوا عمليات التنقيب الأثرية خلال الفترة الزمنية التي يعملون فيها على استحصال رخص البناء. فبذلك، لا تصبح الحفريات الأثرية عائقاً في وجهم إنما منفعة لهم: فبعد التنقيبات سيصبح العقار الذي سيرفع فيه المبنى جاهزاً، وتكلفة تلك الحفريات لا تتخطّى 0.1 % من ميزانية المشروع. هذا إضافة الى أنه يتم حالياً دمج المكتشفات الأثرية داخل المباني مما يعطيها ميزة تاريخية فريدة».
ففي موقع الجامعة اليسوعية على طريق المتحف أدخل المهندسون المقابر الرومانية المكتشفة حديثاً ضمن تصاميمهم. ويشرح سيف قائلاً «بأن تمويل عملية الدمج تم من جانب الجامعة، وبعد إنهاء عملية البناء ستُعاد بعض من المقابر الرومانية إلى مكانها تماماً كما كانت حينما اكتُشفت، أي مع كل القطع المدفنية التي تُركت في داخلها وحتى بعض الهياكل العظمية. وستغطّى هذه المدافن بلوحات خاصة تحفظها من الرطوبة والتغيّر المناخي وستُوضع قربها لوحات تفسيرية تشرح طرق الدفن التي كانت متّبعة في تلك الفترة».
وسيتمّ إجراءٌ مماثل في التباريس حيث عثر فريق مديرية الآثار على بقايا معبد روماني ضخم وعلى عدد من التماثيل واللقى الأثرية وصفّ من الأعمدة. ورحّب صاحب المبنى بدمج صف الأعمدة داخل حديقة المبنى التي ستبقى أبوابها مفتوحة أمام العامة. كما أنّه سيعرض في تلك الحديقة بعضاً من التحف التي عثر عليها في الموقع مع كل الشروح الضرورية لفهمها.
وعندما ستنفّذ هذه المشاريع، سيبدأ تغيّر في تعاطي المواطن اللبناني مع الآثار. فالمقاول من جهته سيعي أهميتها في «وجاهة» مشاريعه إذ تكون للمبنى الذي يتضمن معبداً قيمة سياحية ومادية أكثر من مبنى آخر عادي الشأن. وهذا ما سيدفع أصحاب المشاريع الإعمارية الكبرى إلى تبنّي خطة عملية لتمويل التنقيب على الآثار ومن ثم العمل للمحافظة عليها في موقعها. أما بالنسبة إلى المواطن العادي، فهو سيشعر وللمرة الأولى بأن له الحق في «امتلاك» ماضي مدينته والتعرف اليه ورؤيته حينما يشاء، فالموقع الأثري لم يعد صعب المنال وزيارته لا تتطلّب مجهوداً خاصاً.