إبراهيم الأمين
لم ينتظر وليد جنبلاط وسمير جعجع طويلاً حتى يعلنا أن الولايات المتحدة الاميركية ترفض تسوية سريعة للأزمة السياسية في لبنان. الأول نفى علمه بوجود مبادرات ورفض مسبقاً أي تسوية حقيقية، لأنه رفض أساساً السقف السياسي الاقليمي لمثل هذه التسوية وفق ما أعلن وزير الخارجية الايطالي ماسيمو داليما عما يمكن أن يحصل مع سوريا. ومع ذلك فإن الحديث يستمر جدياً عن الوساطات العربية والدولية لتوفير توافق على حكومة وحدة انتقالية قبل الانتخابات الرئاسية، مع فارق وحيد عن التجارب السابقة، وهو أن الجهات الخارجية تتحدث بـ«مونة» أكبر عن موقف النائب سعد الحريري، برغم أن الاخير لم يرفض تماماً جدول أعمال حليفيه، وهو وإن كان مضطراً، لأسباب وأسباب، إلى القبول بمبدأ التسوية، فإنه في التكتيك نفسه يقدم الشروط الحوارية بطريقة تختلف ولو في الشكل عن جنبلاط وجعجع، إذ إن أميري الحرب يريدان جدول أعمال سياسياً يسبق أي تفاهم على تغيير الحكومة، وهما يفترضان أن الطرف الآخر يحاول استغلال الوضع القائم في البلاد الآن أمنياً واقتصادياً لأجل الضغط بغية الحصول على مكاسب في الملف الحكومي، فيما الحريري يؤيّد مضمون الموقف ولكنه يستخدم طريقة أخرى في المقاربة، فيهجم حوارياً طالباً الاجتماع فوراً وفي أي وقت ومن دون شروط مع ثلاثة من أبرز قادة المعارضة، وعند التدقيق يتحدث عن اجتماع واحد مع الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله. وهو أبلغ وسطاء من الجهات الدبلوماسية أن طلبه هذا ليس شرطاً ولكن لا يمكن الدخول الى حوار منتج وفعال من دون حصول هذا النوع من التواصل. وهو عندما اوفد مبعوثاً الى الأمين العام لحزب الله، كان يأمل أن يجتمع مبعوثه مع نصر الله شخصياً، لا أن يتم اللقاء مع معاونه السياسي الحاج حسين الخليل، ورأى في الامر هروباً من جانب نصر الله، ولما حمل الموفد معه جواباً أولياً مفاده أن اللقاء ليس أمراً مرفوضاً بالمطلق ولكنه ليس مرغوباً بالشكل، تجاهل الامر بناءً على نصيحة خبير، وقال إنه لا يزال ينتظر الجواب، ما دفع بالخليل الى مخاطبته من خلال الزميلة «السفير» بالقول إن اللقاء يجب أن يسبقه التزام جدي من جانب الحريري بالخطوات الأخرى المتعلقة بالتغيير الحكومي. ومع ذلك واصل الحريري تجاهل هذا الموقف وكرّر أنه يريد سماع جواب مباشر. وثمة من يقترب يومياً ويهمس له في أذنه: استمر على موقفك هذا ودع نصر الله يخرج شخصياً ويقلْ إنه لا يريد الاجتماع. وهذا كاف لإغلاق هذه الصفحة من المناورة السياسية التي كانت ضرورية بعد إقرار المحكمة الدولية.
الوسيط الدبلوماسي الشهير بالتواصل، يدعو الى عدم تحميل الرجل (أي الحريري) الكثير. ويضيف: إنه يدرك الحاجة الى هدوء في لبنان، وهو ملزم التعامل بإيجابية بعد إقرار مجلس الأمن الدولي قانون المحكمة، وهو متفهم بأنه لا يمكنه البقاء في الموقع نفسه الذي كان فيه سابقاً بعد إقرار المحكمة، وإلا كان رافضاً للتغيير الحكومي، وليس الامر مرتبطاً برفض عرقلة إقرار المحكمة، ولأن عملية عرقلة إقرار المحكمة لم تنجح، فإن التحفظ على تغيير حكومي سابقاً بهدف عدم عرقلة المحكمة قد سقط، وبالتالي فلم يبق هناك سبب لرفض التغيير الحكومي، علماً بأن الدبلوماسي النشيط نفسه يقول إن الأمور ليست سهلة كثيراً وإن مبدأ التنازلات المشتركة يجب أن يظل مواكباً لأي خطوة سياسية. وهو وإن تفهم موقف المعارضة الآن، الذي عبّر عنه الرئيس نبيه بري برفض أي خطوة قبل إقرار مبدأ التغيير الحكومي، فإنه يخشى تحول هذا الموقف الى نوع من الشرط الذي يعوق التوصل الى تسوية سريعة.
إلا أن الامر لا يقف عند هذا الحد، باعتبار أن رفض الثنائي جيم لما يسمّيانه الخضوع لشروط الآخرين، لا يعبّر عن ذعر القوى الصغيرة التي تخشى توافق الكبار من حولها، بل هو يعكس الصورة الفعلية لأبعاد ما يجري الآن من أحداث في لبنان. ومن المهم هنا، برأي مرجع سياسي، التدقيق في أولويات ثنائي الحرب الحالية، التي تتحدد بالآتي: التوصل سريعاً الى خطوة تخص كل أشكال السلاح الفلسطيني مع تحديد دقيق لنقاط العمل، وإغلاق أمني وعسكري للحدود بين لبنان وسوريا من قبل قوات دولية، وفرض آلية تحاصر سلاح المقاومة وتحدّ أولاً من جدوى وظيفتها وتالياً من جدوى السلاح نفسه. وليس في البال من أفكار سوى القول بأن معركة رئاسة الجمهورية هي الأساس (سمير جعجع)، او انه لا صوت يعلو فوق صوت المعركة التي تستهدف تثبيت الأمن بالقوة (وليد جنبلاط).
ويلفت المرجع إلى أن التوقعات المنطقية لمناورة من هذا النوع هي التي دفعت بفريق المعارضة الى رفع مستوى الحذر والتحفظ حيال ما هو مطروح من مبادرات، وإن كانت قوى المعارضة تلمست من خلال اتصالات جرت معها من قبل عواصم عربية ودولية معنية، أن هناك تغييراً ما ولو جزئياً في الموقف الغربي، عدا عن شعور المعارضة بأن هامش المناورة الإجمالي بات يضيق أمام فريق السلطة. لكن منسوب الحذر المرتفع يلامس حدود رفض أي بحث في آلية الحل أو أبعاده قبل سماع موقف إجمالي ورسمي وحاسم من قبل فريق 14 آذار، وإذا كان الحريري وفريقه غير موافقين على تكتيك أو استراتيجية الثنائي جيم، فإن عليه المبادرة الى إعلان هذا التمايز والدفع باتجاه تغيير جدي، وهو أمر ليس محسوباً في وقائع لبنان الحالية، وخصوصاً أن في تيار الحريري أكثر من رأي من هذه المسألة، ولا سيما أن الرئيس فؤاد السنيورة الذي كان عادةً أقرب الى جنبلاط وجعجع يظهر اليوم تأييداً للتحرك السعودي ويقترب من الفريق الذي ينادي بإبعاد تيار «المستقبل» عن المواجهة الشاملة.
أما عنصر الإثارة المتوقع فهو سيأتي هذه المرة من الخارج أيضاً، إذ إن تغييرات تجري في أكثر من مكان سوف تترك آثارها المباشرة على ما يجري عندنا في لبنان، ففي السعودية خسر الفريق الثأري أحد أبرز حلفائه بندر بن سلطان الذي قد ينتهي به الأمر ملاحقاً بتهمة الاختلاس بعدما جهر وزير الخارجية سعود الفيصل باحتجاجاته على طريقته في إدارة الامور، دون أن يعني هذا أن الفيصل لديه جدول أعمال يختلف جذرياً عن بندر، ولكن الأخير اشتهر بآليات عمل من النوع الذي يقود حتى الى العثور على خيط يربطه بـ«القاعدة». وفي فرنسا ليس هناك من يتوقع زيارة للرئيس الفرنسي الجديد نيكولا ساركوزي الى دمشق، لكنه معني ــــــ لأسباب فرنسية داخلية ـــــ باستخدام مكثف لمضاد حيوي لمواجهة الحساسية اليومية التي كانت تتملك سلفه جاك شيراك إزاء ملف لبنان. أما عند الجانب الاميركي فالترياق آت من العراق، أعجب ذلك الغاصبين أم لا. وهو ترياق تفرض الجغرافيا كما الاقتصاد أن يكون مشغولاً بين طهران ودمشق ودول الجوار الاخرى.