عسّاف أبو رحال
  • أمراض مجهولة تفتك بمئات الخلايا في غياب أيّ دعم رسمي

    خرجت تربية النحل من خانة «الهواية» لتدخل عالم الصناعة «الاحترافية»، وباتت تشكل مورد رزق أساسياً لشريحة واسعة من الأهالي. لكن هذه المهنة، التي يعتاش منها المئات، تعاني من ظروف صعبة جداً نتيجة تفشي الأمراض من جهة
    وارتفاع أسعار الأدوية والمستلزمات من جهة ثانية في ظلّ غياب أيّ دعم رسمي


    تنشط، في مثل هذا الوقت من كلّ عام، حركة النحّالين. فهذا موسم قطاف العسل الربيعي الذي تشكّل زهرة الليمون مادة أساسية في تكوينه. لكن هذا القطاع يمرّ بظروف صعبة جداً اليوم نتيجة تفشّي الأمراض، وغياب الدعم الرسمي من قبل الدولة. وزاد الطين بلّة عدوان تموز الماضي وما نتج عنه من سموم لوّثت الهواء والمراعي وأدت الى نفق مئات الخلايا في مناطق الجنوب والبقاع وسبّبت بالتالي تدنّي نسبة إنتاج العسل.

    قطاع منتج

    كلّ هذه العقبات لم تخفّف من الإقبال على تربية النحل التي يعتبرها أهالي القرى الجبلية مرادفاً لوجودهم. ويعيد جميل عبود ارتفاع عدد العاملين في هذا القطاع إلى انعدام فرص العمل من جهة، وسهولة العمل في تربية النحل. فهي «المهنة الوحيدة التي يمكن العمل فيها وفق الإمكانات المادية المتوافرة، إضافة إلى أن هذا القطاع منتج ويمكن للنحّال أن يعتمد عليه لتأمين عيشه وسط ظروف صعبة» وخصوصاً أن «الإنتاج المحلي لا يكفي حاجة السوق، والعسل اللبناني يشهد إقبالاً رغم ارتفاع سعره قياساً بالعسل الأجنبي المستورد».
    ويوضح رئيس تعاونية مربي النحل في حاصبيا زيد سريوي أن عدد القفران المسجلة في التعاونية هو 4500 قفير وتضم التعاونية 40 عضواً «علماً بأن هناك أعداداً أخرى من النحل غير مسجلة». تعود تربية النحل في لبنان إلى عصور قديمة، لكنها بقيت تقليدية حتى أواسط القرن الماضي عندما أدخل الأستاذ في الجامعة الأميركية والمدير العام لوزارة الزراعة حليم النجار القفير الخشبي بشكل جدي إلى الميدان. وتأسست جمعية النحالين سنة 1949 فأسهمت إيجاباً. لكن نشاطها اقتصر على نخبة مثقفة ولم يكن لها التأثير الكامل نظراً لإطارها الواسع وعدم وجود آلية عملية لجمع النحّالين في أطر تنظيمية تسهل الاتصال بهم.
    وشهد لبنان نهضة جديدة لهذا القطاع في أواخر الستينات إثر حملة لتطويره قامت بها مصلحة الإنعاش الاجتماعي ضمن برامج التنمية الريفية وتم خلالها تأهيل أعداد كبيرة من مربّي النحل في مختلف المناطق اللبنانية لإكسابهم مهارات فنية من خلال دورات تدريبية.
    يشرح رامز واكيم أحد قدامى مربي النحل آلية العمل: «مع مطلع كلّ خريف ينقل النحّال اللبناني خلايا النحل إلى الساحل بسبب البرد وانعدام المراعي شتاء، وتمتدّ فترة الإقامة هناك حتى أواخر نيسان يتخلّلها فترة تغذية حتى منتصف شهر آذار، تتوقف مع بدء تفتح زهر الليمون الغني برحيقه ويكون بذلك قد أنتج موسماً لا يستهان به إذا كانت الخلايا مؤهّلة وفي جهوزية تامة».
    واستعداداً لموسم الصيف، تنقل المناحل إلى المناطق الجبلية حتى أواخر شهر أيلول «وبذلك يكون العسل اللبناني نوعين: العسل الربيعي أو «عسل الليمون» كما يعرفه العامة نسبة إلى شجرة الليمون التي تعدّ من أغنى الأشجار الرحيقية في لبنان وتنتشر على امتداد الساحل اللبناني وتؤمّن للنحالين موسماً عسلياً وفيراً في وقت مبكر. لونه فاتح مائل إلى الإصفرار، خفيف، طيب المذاق وغنيّ بالفيتامين «سي». أما العسل الصيفي فهو نتاج مجموعة أزهار وأشواك برية عاسلة، يتفاوت ارتفاع موقعها بين 800 و3000 متر فوق سطح البحر، ما يكسب هذا النوع ميزة خاصة لغناه بالفيتامينات المختلفة. ونجد لونه قاتماً أحياناً، يصعب تناوله بكميات كبيرة».

    خسائر فادحة

    ورغم أهمية هذا القطاع وإنتاجيته، إلا أنه يعاني من مشاكل كثيرة بعد أن تعرّض إلى خسائر فادحة كانت نسبتها مرتفعة في بعض المناطق وخصوصاً أقضية: راشيا الوادي، البقاع الغربي، حاصبيا ومرجعيون. وأوضح عدد من كبار مربي النحل أن مئات الخلايا ماتت «من دون معرفة الأسباب الحقيقية»، في حين رأى آخرون «أن الأسباب قد تكون عائدة إلى الأدوية الفاسدة وغياب الرقابة على التجار المستوردين».
    ويوضح نائب رئيس تعاونية مربي النحل في راشيا الوادي باسم أبو معروف أن نسبة الموت بين القفران لديه لم تتعدّ العشرة في المئة «لكنها وصلت عند بعض النحالين الى حدود الخمسين في المئة». ويقدّر عدد الخلايا التي أتلفت في راشيا الوادي، بنحو 600 خلية «يعود السبب في ذلك إلى أمرين أساسيين. تفشي حشرة الفاروا التي تفتك بالنحل وغياب التغذية في فصل الخريف. الأمر الأول يحتاج الى رقابة دقيقة من قبل النحال الذي يلعب دور الطبيب والصيدلي والخبير الميداني في هذا الحقل. أما الأمر الثاني المتعلق بالتغذية فهو ضروري وخصوصاً في فصلي الخريف والشتاء حيث تكون النحلة بحاجة الى تغذية لغياب الأزهار ويباس المراعي».
    ويوضح عميد مربّي النحل في منطقة حاصبيا ومرجعيون متري السكاف، الذي يملك نحو ألف خلية: «في عام 1985 اجتاحت لبنان حشرة «الفاروا» الفتاكة، متلفة آلاف القفران، ومع الوقت تعرّف النحّالون على هذه الآفة وسبل مكافحتها واستخدام الأدوية والعلاجات اللازمة التي تؤمن استمرارية بقاء الخلية من دون القضاء على هذه الحشرة. وهناك أمراض أخرى بعضها معروف تتم معالجته دورياً، وآخر غير معروف. وهنا تكمن المشكلة الحقيقية لعدم وجود مختبرات متخصصة في هذا المجال، الأمر الذي أدى إلى نفق أعداد كبيرة من الخلايا في مناطق مرجعيون والقليعة وصلت أحياناً إلى 75 في المئة».
    وفي هذا الإطار، يرى سامي عبود الذي خسر نحو 400 قفير أي ما نسبته أربعين في المئة مما يملكه: «لم تتضح حتى الآن الأسباب الحقيقية لموت هذه الأعداد المرتفعة، علماً بأن معالجة الأمراض تتم في الوقت المناسب من دون أي تأخير، لكن لدينا شكوكاً بأن الأدوية المستوردة قد تكون فاسدة أو مزوّرة لغياب الرقابة، كما ان غياب المختبرات الحديثة التي من شأنها الكشف عن الأمراض مبكراً وتحديد العلاج ينعكس سلباً على هذا القطاع ويحدّ من إنتاج النحّال ومدخوله السنوي».
    المعاناة نفسها يعبّر عنها رئيس تعاونية مربّي النحل في مرجعيون مفيد نهرا: «راوحت نسبة القفران الميتة بين 30 و60 في المئة من دون معرفة الأسباب، علماً بأن مكافحة الأمراض جرت في الوقت المناسب ولم نبخل على المناحل مطلقاً. وهذا الأمر يحتاج إلى رعاية على مستوى الدولة في إيجاد مراكز أبحاث ومختبرات تعنى بهذا الشأن».
    وهذا ما يؤكده باسم أبو معروف بقوله إن الوزارة لم تقدّم أي مساعدات «بعض الأدوية متوافر والآخر مفقود والأسعار مرتفعة. المساعدة الوحيدة تلقيناها من مؤسسة جهاد البناء مشكورة، ونأمل استمرارها دعماً للنحال ولهذا القطاع الذي تعتمده شريحة واسعة من الأهالي».

    غياب المستلزمات

    تضاف إلى الأمراض عوامل أخرى تلحق ضرراً بالنحل «منها المبيدات والسموم التي يستخدمها المزارعون لحرق العشب الأخضر، فتقضي على الأزهار والنحل معاً. كما ان قطعان المواشي من الماعز والغنم تفتك بالأعشاب الصيفية وتقضي عليها، مثل: الدردار وقرص العنة والشنديب والصعتر والفاقوع وغيرها».
    ومن الأمور الأخرى حاجة هذا القطاع إلى مستلزمات عدة منها ما يستخدم في العمل داخل المنحل، والآخر في عملية فرز العسل. وأجمع عدد من النحالين على أن أسعار هذه المستلزمات قد ارتفعت أخيراً، وخصوصاً المستوردة من أوروبا، «حتى سعر القفير الخشبي الذي يشكّل أساساً في بناء المنحل ارتفع مع ارتفاع أسعار الخشب المستورد». وينطبق هذا الواقع على الأدوية المخصصة لعلاج أمراض النحل، وقد طالب النحّالون وزارة الزراعة «بتقديم المساعدات والعمل في استحداث مختبرات للكشف على الأمراض ومعالجتها قبل فوات الأوان».
    في هذا الإطار يوضح زيد سريوي المشاكل التي تواجه التعاونية «أولّها عدم توافر الأدوية لا من الوزارة ولا من جهات مانحة، كما ان المعلومات الجديدة المتعلقة بكيفية التعاطي مع الأمراض ومعالجتها تبقى ناقصة لانعدام التواصل مع مراكز أبحاث تعنى بهذا الموضوع، والنحّال اللبناني بحاجة إلى تقنيات وطرق حديثة تتعلق بفرز العسل أسوة بالدول المتقدمة، كذلك الأمر بالنسبة لإنتاج الملكات وتربيتها. كما ان التصريف لا يزال يتم وفق الطرق البدائية القديمة التي تعتمد على شبكة من العلاقات الواسعة... باختصار التعاونية غير قادرة على تقديم المساعدات للنحالين لأن الأموال غير متوافرة، علماً بأن هذا القطاع خسر في الصيف الماضي ما نسبته 25 إلى 30 في المئة من القفران بسبب الحرب ومخلّفاتها».




    سلالات النحل

    ينحدر النحل العاسل من سلالات عدة: منها القبرصي وهي برأي الباحثين من أهم السلالات النشيطة في جمع الرحيق. تعمل في ظروف جوية سيئة، وتعطي إنتاجاً وفيراً. وتمتاز بنظافتها ومقاومتها للأمراض، وتكثر من بناء البيوت الملكية وتشتهر بشراستها. لذا يصعب التعامل معها دون دخان كثيف.
    السلالة السورية هي شائعة، تأقلمت في بلادنا على حالتها البرية في شقوق الصخور وفجوات الأشجار. دجّنها الإنسان وأقام المناحل قرب المنازل. تعيش في سوريا ولبنان وفلسطين. ويورد بعض الباحثين أن نحلة فلسطين أو نحلة الأراضي المقدسة تختلف نوعاً ما عن النحلة السورية.
    السلالة الكرنيولية نسبة إلى مقاطعة كرنيولا في يوغوسلافيا. عاملات هذه السلالة كبيرة سنجابية اللون، هادئة نسبياً وتناسب المناطق اللبنانية وبخاصة المرتفعات التي تتميز بقساوتها شتاءً.
    النحل الإيطالي وينسب الى منطقة ليغوريا في إيطاليا، نحلة وديعة صفراء اللون تعطي إنتاجاً جيداً حيث يفشل غيرها، وتعتبر من أكثر السلالات انتشاراً في وقتنا الحاضر.




    استيراد الملكات

    الملكة هي روح القفير وينبوع الحياة لكل فرد من أفراد الخلية التي تتزلزل حين تفقد ملكتها. إذ يتدافع النحل بفوضى ظاهرة وتبدو عليه علامات النرفزة والعصبية، ويصدر أنيناً رتيباً ولا يعود إلى هدوئه واستقراره إلا إذا عادت له ملكته أو أعطي ملكة جديدة أو بيتاً ملكياً.
    وفي هذا الإطار، برزت تجارة نشطة تقوم على استيراد الملكات المهجّنة، تنتجها مراكز أبحاث في دول متقدمة. ويقول روبير سعد أحد العاملين في هذه التجارة: «هناك أنواع عديدة من الملكات، كل له ميزاته وخواصّه وتختلف الأسعار بين نوع وآخرن وتراوح بين 25 و125 دولاراً للملكة الواحدة. وهناك سلالات قادرة على العمل وسط ظروف جوية قاسية ويصل إنتاجها السنوي إلى نحو 108 كيلوغرامات من العسل في حال توافر المراعي».
    يتألف قفير النحل من صندوق خشبي، تضاف فوقه طبقة أخرى في موسم الجني، تقيم بداخله مملكة مستقلة قائمة بحد ذاتها، على رأسها ملكة ثم العاملات اللواتي يقمن بجميع أعمال الخلية من تغذية اليرقات وبناء الأقراص الشمعية وتحويل الرحيق الى عسل وتخزينه وأعمال الحراسة. أما الذكور فيكثر وجودها في الربيع والصيف، وتموت في الشتاء. مهمتها تلقيح الملكة أثناء الطيران.