البداوي - غسان سعود
ترك أهل القدس في منازل نهر البارد أوراق «الطابو» ومفاتيح منازل فلسطين، وفرّوا مسرعين من هول الرصاص الذي اجتاح حياتهم مرة أخرى. خسروا فجأة مزيداً من الذكريات، وكل تلك الأشياء الصغيرة التي كانت تربطهم بأرضهم. هكذا تتضاعف الخسارة، ويفقد فلسطينيو الشتات جزءاً من رمزيتهم

«تخسر الفلسطينية عزيزاً، تبكي، تصاب، تشرد، تستشهد. تتحلل جثتها ولا تجد من يدفنها. وتبقى في هذا كله، فلسطينية لا تستحق الشفقة ولا مراجعة الحساب في قصف حيّها». «كأن الفلسطيني لا يملك الحق أصلاً في السكن والملبس والأكل والشرب». «كأن منزله لا يحتضن حناناً وحباً وصوراً ومستقبلاً».
تحمّلوا قصف الأحد المكثف وبقوا في منازلهم، في أرضهم المستعارة. لم يفكروا لحظة في احتمال المغادرة، و«خسارة جنى العمر بعد خسارتهم الأولى». تركوا «الصيغة»، الأموال، الألعاب، الأوراق الثبوتية، وفرّوا. أضاعوا «البطاقة الزرقاء» وباتوا مرة أخرى دون هوية.
هذا بعض من كلام الفلسطينيين الخارجين من مخيم نهر البارد إلى مخيم البداوي، كلام لا تصفه إلا العيون الباحثة عبثاً عن ابتسامة أو نظرة تطمئنها إلى حاضرها أو مستقبلها. عيون سئمت من «الفلسطيني اللاجئ»، واستمارات الأونروا، وأسئلة الصحافيين، ومواكب التشييع، ولوائح الضحاياتتفاعل مع التهجير هذه المرة مجموعة كبيرة سمعت الكثير عن الهروب خارج المنزل والحي الذي ولدت فيه، والانتقال إلى مكان آخر، لا شيء فيه يربطها بماضيها. أبناء مهجّري الـ 48 وعائلاتهم ينزحون مجدداً. تبدو قصص الأجداد أكثر واقعية. ويسترجع البعض ذكرياته الخاصة. فلسطين القصة كلها. ما أبشع هذه الحياة، يقول أحد المسنّين، وتنحو عيناه باتجاه الجنوب، ويسأل عن سبب حصول كل هذه الأمور للفلسطينيين.
البداوي مساحة معزولة عن العالم بحواجز يتمركز فيها عناصر حركة فتح، مساحة للحقد، الحزن، الأسئلة، والغضب. لا يجد أهل البداوي حاجة للنوم، ينشغلون باستقبال «إخوتهم» والتخفيف من معاناتهم. إقفال الباب «خيانة عظمى» في مثل هذه الحالة. تمتلئ كل الزوايا ولا يهدأ نهر الوافدين. تكتظ بهم المدارس، النوادي، الجوامع، المقارّ الحزبية والمنازل. ولا يُسمع تذمّر واحد. يبحثون عن المساحات الإضافية، يزرعون البساتين القريبة خيماً. لا مكان للفلسطيني خارج «المخيم»، نحن «جرثومة» لا تستطيع الاختلاط باللبنانيين، بالناس الطبيعيين. يقول أحد الرجال. والتوجّه صوب طرابلس، المنية أو عكار محرّم بالنسبة إلى هؤلاء خوفاً من «مناصري تيار المستقبل الذين أهانوهم وتعدّوا عليهم أثناء انتقالهم بين المخيّمين».
تمر الساعات، يحتشد الناس حول التلفزة وأجهزة الراديو، ينتظرون «الفرج». في هذه الأثناء، يحاول التجار تلبية الزبائن الوافدين من كل صوب. تشهد السوق حركة استثنائية، لا يشتكي أحد من استغلال التجار الظرف ليرفعوا الأسعار.
في مدارس الأونروا، موقفان يتناقضان في النظرة إلى فتح الإسلام ويلتقيان على انتقاد الجيش. الغالبية تؤيد مقاتلي فتح الإسلام وتبرر لهم ضرب الجيش. ويصف هؤلاء المقاتلين بالراقين جداً، الذين يعاملون الأطفال بلطف. ويرون أن غضب الإسلاميين من الجيش هو رد فعل على تضييقه المستمر على أهالي المخيم، وإبقائهم ساعات طويلة على حواجزه. وتقول إحدى السيدات إن بعض العسكريين كانوا يرفعون الحجاب عن وجوه السيدات للتأكد من هوياتهن، إضافة إلى أشكال أخرى من الإساءة، الأمر الذي لم يهن على شبان فتح الإسلام. وهم «طوّلوا بالهم» كثيراً قبل الرد على استفزاز الجيش. ويؤكد أنصار هذا المنطق أن عناصر فتح الإسلام كانوا يتحركون بخفّة وهدوء على أطراف المخيم، طالبين من الأطفال عدم الكفر وإطاعة الأهل، والالتزام بالدين.
وفي المقابل، يرفض البعض تصرف فتح الإسلام، ويؤكدون أن «مغامرة هؤلاء أدخلت المخيم وأهله في مصيبة جديدة». ويقول عضو المكتب السياسي في الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين مروان عبد العال إنهم منعوا تسلل عناصر فتح الإسلام إلى قلب المخيم الذي لم يتقبّل منذ البداية هذه المجموعة. وكانت الجبهة قد سيطرت على أربعة مواقع كان يشغلها مقاتلو التنظيم السلفي. لكن المفاجأة، بحسب عبد العال، ردّ الجيش بقصف مكتب الجبهة ما أدى إلى مقتل اثنين وإصابة العشرات. ويشير إلى أن الحل يكون بقتل السائق الذي يخطف المخيم، لا الركاب.