strong>ربى أبو عمو
  • الشباب هم أكثر من يبادر من أجل «أن يحبّوا أنفسهم أكثر»
    غالباً ما ترافق زيارة الطبيب أو المعالج النفسي في لبنان هالة من السرية. إلا أن مرور الوقت وتبلور الوعي، فرضا معادلة جديدة، بدأت تطرح الطبيب النفسي بصفته حاجة، وشجعت «المريض» على مقاربة الموضوع من منظار علمي

    لم تنس نسرين تلك اللحظة، حين هاتفتها مساعدة المعالجة النفسية التي طلبت رؤيتها في وقت سابق، وحدّدت لها موعداً بعد يومين من تاريخ الاتصال. تصارعت التعابير على وجهها، فلم تستقرّ ملامحها على موقف واضح. خاطبت نفسها: «أخيراً، سأشعر بالراحة».
    وثقت نسرين بالمعالجة، وآمنت على الفور بأنها ستساعدها «لا شك في أن مجلدات الكتب قد توصلت الى نظرية لحالتي: عدم قدرتي على المواجهة، حساسيتي الزائدة، وعجزي عن التصرف بصوابية في بعض المواقف السخيفة بسبب خجلي...».
    بالفعل لم تخيّب المعالجة أمل نسرين، بدأت جلستهما بالتعارف الودّي مثلما يلتقي أي شخصين، بعدها انطلقت نسرين في الحديث عن عائلتها لمدة ستين دقيقة كاملة. خرجت من العيادة مع رغبة جارفة في الكلام «لدرجة شعرت فيها بأنني غير قادرة على الصبر حتى الموعد التالي بعد أسبوعين».
    لم تتردّد نسرين في اتخاذ قرار الاستعانة بمعالج نفسي لتخطي مشاكلها بعكس كثيرين يمثّل الطبيب النفسي بالنسبة إليهم «آخر الدواء» بعد أن يجرّبوا التبصير والشعوذة «كأننا خيارهم الأخير» يقول الطبيب النفسي ايلي شديد.
    هل يعني هذا أن الطبيب النفسي لا يزال «تابو»؟ الجواب لا تحدده الاحصائيات لعدم وجودها في لبنان، إلا أن المعالجة النفسية سهى بيطار، تلاحظ انتشار الظاهرة وبخاصة لدى الجيل الجديد «بسبب تبلور الوعي».

    هل أثق بغريب؟

    وهذا ما نلاحظه في أوساط الشباب الذين يعرضون بصراحة تامة تجاربهم. ريما مثلاً، ترى أن الأمر يعنيها ولا يعني المجتمع والناس لأن «المرض النفسي لا يقلّ خطورة عن المرض الجسدي». كانت تشعر دائماً بأنها تعرف مشكلتها، وتساءلت مراراً: «ماذا سيقدّم لي المعالج النفسي؟ أريد حلولاً سحرية... يجب على الناس أن يتغيروا، لا أنا...».
    جمعتها الصدفة لاحقاً بمعالجة نفسية نصحتها بضرورة الذهاب الى أي معالج، بسبب الحزن الذي كان واضحاً في عينيها، واستعانتها المقصودة بالضحك لتغطيته. لم تكن الخطوة الأولى سهلة «أن أثق بشخص غريب، أسلمه اسراري»، فكانت الجلسة الأولى بمثابة اختبار متبادل، استطاعت من خلاله الوثوق بها، بعدما شرحت لها كيفية التعاطي، وسرية المعلومات المتعلقة بكل مريض.
    اليوم، تحسنت ريما بنسبة50% على الأقل، خصوصاً أنها كانت تعاني الكآبة والقلق والعصبية الزائدة. «صرت أفهم طريقة تفكير الناس، وأخفّف عنهم اللوم، وأراجع تصرفاتي». لكنها باتت تخاف الاتكالية المطلقة على المعالِجة النفسية في اعتمادها على حل جميع مشاكلها، خصوصاً أنها باتت تتصل بها يومياً لأتفه الأسباب التي تضايقهاكاتيا أيضاً كانت تشعر بحاجتها الى طبيب نفسي. تتذكر بكاءها الفجائي في الصف الذي لا يعرف أحد سببه، طلاق والديها، وموت والدها بالسرطان، انتقالها وأمها وأخيها الى العيش عند جدتها، اضطرارها الى العمل باكراً لتتمكن من متابعة دراستها. قصدت معالجاً نفسياً بعدما نصحتها إحدى صديقاتها بذلك، لحالة الكآبة التي اعترتها بعد حرب تموز على وجه الخصوص. هي الآن مختلفة. «تعلمت كيف أحب نفسي أكثر من الآخرين، صرت أسهر وأصدقائي، وأعيش الأعمار التي لم أعشها، لا أدع المشاكل تتراكم، وما زلت أحاول معالجة حساسيتي الزائدة تجاه الأمور التي أواجهها».
    كذلك الأمر بالنسبة لعبد الذي لا يحول بينه وبين الطبيب النفسي إلا ضيق الوضع الاقتصادي. عندما علم بعد فترة بوجود مستوصف تابع للجامعة الأميركية، يتقاضى فيه الطبيب أو المعالج النفسي بدلاً رمزياً، 15000 ليرة لبنانية حداً أقصى لم يتردد في الذهاب. أما السبب الذي دفعه إلى اتخاذ هذا القرار فهو رغبته الدائمة بالانتحار، ونظرته لنفسه على أنه فاشل، بعدما بلغ الـ28 سنة من دون أن يحقق شيئاً في حياته. في البداية، فحصته لجنة من الأطباء لتحديد حالته ومدى حاجته الى طبيب أو معالج نفسي. وطلبت منه المعالِجة الاطلاع على المقالات التي اعتاد كتابتها في الصحف للتقرّب من أفكاره. لكن عبد واجه مجدداً أزمة مالية، وبالرغم من حاجته للعلاج أو الراحة لم يعد إلى المستوصف. وهو يقول دائماً لصديقته التي تواجه مشاكل كثيرة: «على الأقل لديكِ معالج نفسي».
    واذا كان عبد مقتنعاً الى هذه الدرجة بأهمية المعالج النفسي، فإن ايلي، بعكسه، يشعر بنوع من الفضول لمعرفة ما يدور داخل عيادة الطبيب «فما هي هذه المشكلة الكبيرة التي تحتاج الى شخص غريب ليحلّها؟».

    إحباط وغياب الثقة

    توضح سهى بيطار طبيعة هذه المشاكل: «غالباً ما يعاني الأشخاص بين سن العشرين والثلاثين، إحباطاً حادّاً يأتي نتيجة الصورة المكوّنة عن الذات، وقلة الثقة بالنفس، وهو ما يؤثر على حياتهم بشكل سلبي يترجم بمعاناة تجعلهم عاجزين عن عيش يومياتهم بطبيعية. وقد يواجهون مشاكل زوجية، خصوصاً البرودة الجنسية، التي تتكلم عنها المرأة أكثر من الرجل، بسبب مبدأ الرجولة الذي يمنعه في أكثر الأحيان من البوح بمشاكله، الا أنه يتحدث عن المواقف المتراكمة في حياته، التي تسبب له الانزعاج، وأحياناً توقفه حتى عن العمل. أما المراهقون، فتتركز مشاكلهم على علاقاتهم مع الجنس الآخر، وعلاقة الفتاة مع جسدها، المرتبط الى درجة كبيرة بنظرة الأم للجسد. فالعلاقة الأولى للإنسان هي مع أمه، حيث يحمل في لاوعيه تفاصيل تعاملها معه، خلال الستة أشهر الأولى»وتحدد بيطار ثلاث خصائص رئيسية يجب أن يتحلى بها المعالج «السلطة لا التسلط، الثقة، والحيادية».
    وتشرح المعالجة النفسية جاكلين سعد أهمية العلاج النفسي في الحدّ من ضغوط الحياة اليومية، خصوصاً إذا تمت معالجة المشكلة في بدايتها. وتلفت الى التخصص في عمل المعالجين النفسيين في أوروبا: الجيش، المدارس، الأمراض السرطانية.. إلخ.
    لكن جاكلين تلاحظ أن زيارة الطبيب النفسي لا تزال تصبّ في إطار «العيب». والدليل أن الأهالي الذين يزورونها طلباً لعلاج أطفالهم يقولون غالباً إنهم كانوا يزورون طبيب الأسنان المجاور لها «علماً بأن شرط تحسّن حالة طفلهم منوط باعترافهم بمشكلته».
    تعمل سعد في الشمال في مركز طبي شامل. ويعاني الأطفال الذين تعالجهم التبوّل الليلي، الفشل والتسرّب المدرسي، الخوف من الظلمة، التحرّش الجنسي، الذي يعتم عليه الأهل كلياً.
    وتلفت إلى أن الأهالي لا يزورونها إلا بعد ملاحظة فشل أطفالهم المدرسي «عندها يقلقون على مستقبل أولادهم، ويتشجعون إذا تلقوا نصيحة من آخرين»، علماً بأن النصيحة تبقى في إطار: «إذا لم يستفد الولد، فلن يكون هناك ضرر، وسيبقى الموضوع سراً».
    وتكشف أنها عندما تضطر إلى العمل مع العائلة تلاحظ تجاوبا ًمن الأم فيما يسعى الأب دائماً الى اختلاق الحجج للتملّص. وتلاحظ سعد وجود فرق بين الشمال وبيروت، لناحية تقبّل سكان بيروت الفكرة شرط الحفاظ على خصوصية الموضوع، وغالباً ما يرددون: «المهم ما نلتقي بحدا منعرفو». إلا أن الشماليين يربطون الاستشارة النفسية بالجنون بنسبة أكبر: «شو أنا مجنون لروح عند طبيب نفسي»؟
    لذلك قد يلاحظ الطبيب ايلي شديد مسارعة بعض المرضى إلى القول «أنا لست مجنوناً، ولا أريد دواءً» لكن هذه ليست حالة عامة اذ يطلب كثيرون من الطبيب وصف دواء يتناسب وحالتهم، خلال الجلسة الأولى بغية الراحة، والخلاص بأسرع وقت.
    يُذكر أن هناك فرقاً بين المعالج والنفسي والطبيب. إذ يعمد الأخير الى تشخيص الحالة، لوصف دواء يتلاءم وحاجة المريض، ويصبح بالتالي قادراً على التأقلم مع حياته، وبمعنى آخر، يزيل الأعراض عنه اصطناعياً. بينما لا يأتي وصف الدواء ضمن اختصاص المعالج النفسي، بل يتوجب إحالة المريض الى طبيب، إذا اقتضت حالته وصف دواء.


    نحو نقابة للمعالجين؟

    بعكس الأطباء، لا يتمتع المعالجون النفسيون بنقابة تحميهم وتُفرض الرقابة على عملهم مع المرضى أو الصابرين، كما يسميهم الدكتور عباس مكي، (إذ إن كلمة الصبر مشتقة من «patient» أي المريض، والتي تعني الصبر بحرفيته). ويعود السبب الى أن نقابة الأطباء لا تعترف الا بالطبيب المعالج، ويندرج في مفهومها المعالج النفسي تحت جناح الطبيب. ويقول مكي إن هناك عدداً من الجمعيات التي تضم المعالجين النفسيين، وتهدف إلى تنظيم المهنة والرقابة التي هي جزء من صلاحيتها بمجرد الحصول على العلم والخبر من الــــــدولة. لكن لماذا لم يتمكنوا من إنشاء نقابة تحتضنهم؟
    الجواب بحسب مكي مطمئن «المحاولات جارية منذ نحو ثلاث سنوات، بعدما تم تقديم اقتراح بذلك الى مجلس النواب، الذي وقعه 10 نواب وأحيل على الحكومة التي طلبت استشاريين، لكن الموضوع لا يزال عالقاً إلى اليوم».



    75 معالجاً في المدارس الرسمية



    بدأ التوجيه النفسي والتربوي للمرحلة المتوسطة في المدارس الرسمية منذ نحو 8 سنوات. ويقسم مدير الإرشاد والتوجيه الدكتور جان حايك أقسام المكتب إلى: الإرشاد المتعلّق بمساعدة الأساتذة في المشاكل التعليمية التي يواجهونها، طرق التدريس، تقنيات التعليم الحديث، وغيرها.
    وهناك التوجيه التربوي والنفسي المخصّص للطلاب الذين يعانون مشاكل نفسية، أو أمراضاً معينة، إضافة الى معالجة الأسباب التي تؤدي إلى التسرّب المدرسي (طلاق الأهل، التدخين وغيرها) وكلّ ما يندرج ضمن الصحة المدرسية من وجود مرشد صحي، مستوصفات، ناد صحي، غير ذلك، وأضيف أخيراً التوجيه المهني.
    وعندما بدأ المشروع، انتقى المكتب مجموعة من الأساتذة من السلك التعليمي الرسمي ضمن اختصاصات محددة، مثل علم النفس وعلم الاجتماع والفلسفة، وخضعوا لدورات تدريبية مع اليونيسيف ومنظمات دولية ومحلية أخرى، ليحيطوا بجميع المشاكل التي قد تواجه الطلاب.
    ورغم الإجماع على أهمية وجود المعالج النفسي في المدارس، تكمن المشكلة الأساسية في الإمكانات المادية المحدودة المتاحة، يضاف إليها ندرة الاختصاصات المطلوبة بين أساتذة التعليم الرسمي في لبنان، إذ تحدّ الامكانات من الاستعانة بأساتذة من الخارج وإدخالهم في الملاك.
    يقول حايك إنه ما من قانون يلزم المدارس بتعيين معالج نفسي، الى جانب أساتذة المواد الأساسية. فالمدارس الخاصة تعتمد على الرسوم المرتفعة المفروضة على الطلاب، وبالتالي، يصبح امكان تأمين طبيب نفسي داخل المدرسة مسألة بسيطة. الا أننا «لا نستطيع تحميل الدولة مزيداً من الديون لتوفير هذا الشق في المدارس الرسمية».
    يصل عدد الأساتذة المدربين للتعاطي مع الأولاد في المرحلة الابتدائية إلى 75، ويجري التنسيق بين المدارس ومكتب التوجيه والارشاد في توزيع الاساتذة بحسب الطلب.
    ويضيف حايك أنهم يحققون إنجازات هامة، كما أن المدارس تلجأ اليهم باستمرار. ويختم حديثه قائلاً: «العين بصيرة واليد قصيرة، الا أننا نبذل كل جهدنا».