نقولا ناصيف
يقارب طرفا النزاع، في الغالبية والمعارضة، انتخابات رئاسة الجمهورية على أساس أنها استحقاق محلي بحت، في وسع أي منهما أن يكون وحده صاحب كلمة فصل فيه. وقد يكونان يسعيان إلى أن يكون كذلك، للمرة الأولى على الأقل منذ انتخابات الرئاسة عام 1976. تبعاً لذلك يتعاملان مع النصاب القانوني لجلسة انتخاب الرئيس المقبل على أنه نصاب عددي، قد لا يكون صعباً تسخير اجتهادات دستورية من أجله ليبرّر هذا الفريق أو ذاك موقفه من الانتخابات ويظهر مقدرته على خوضها. لكن طرفي النزاع يدركان في خاتمة الأمر أن أياً منهما غير قادر على تداول اسم مرشحه للاستحقاق باكراً وعلناً، لعجزه عن إيصاله إلى المنصب.
وهكذا تبدو أبواب انتخابات الرئاسة موصدة أمام الأفرقاء اللبنانيين.
لكن ما بدا لافتاً في الأيام الأخيرة، في معرض تجاذب المواقف من النصاب الدستوري لانتخاب الرئيس المقبل، التركيز على سابقتي انتخاب الرئيسين الياس سركيس عام 1976 وبشير الجميل عام 1982، واعتبارهما تمثلان، حصراً، المشكلة القائمة حالياً، وهي تحديد نصاب الثلثين الملزمين لالتئام مجلس النواب أو لانتخاب الرئيس الجديد من الدورة الأولى للاقتراع. ورغم المنحى السلبي الذي يوجّه الاستحقاق المقبل من خلال تناقض مواقف الأفرقاء المحليين بتلويحهم باجتهادات جديدة، أو بالتهويل المتبادل، أو بفرض خيار فريق على آخر، فواقع الأمر أن لانتخابات 2007 ـــــ كما كان لمعظم الاستحقاقات السابقة على مرّ العهود الرئاسية ـــــ إدارة أخرى تجعل النصاب الدستوري، على أهميته، أمراً ثانوياً في معركة دستورية وسياسية في آن واحد. هذا الواقع هو توازن القوى الإقليمية والدولية المؤثرة في مسار الانتخابات. وهو ما تبيّنه المعطيات الآتية:
1 ـــــ لم تجرِ الاستحقاقات الرئاسية المشهودة في لبنان المستقل إلا على قاعدة غالب ومغلوب. كان ثمة فريق لبناني غالب وآخر مغلوب. ووراءهما قوة إقليمية أو صفقة سياسية ثنائية بين دولتين أوجبت مثل هذا الإخلال بانتخاب رئيس يُشعر فريقاً رئيسياً في البلاد بأنه هزمه. كانت هذه حال انتخابات 1958 بعد «ثورة 1958» التي أوصلت قائد الجيش اللواء فؤاد شهاب إلى المنصب. غلب زعماء مسيحيون ومسلمون في «جبهة الاتحاد الوطني» آخرين اقترنت مواقعهم بعهد الرئيس كميل شمعون، فأرغِم الأخير على القبول بخلفه. كانت هذه حال انتخابات 1976 التي ربحت فيها سوريا والجبهة اللبنانية بمرشحها الياس سركيس، وخرج منها خاسران كبيران هما كمال جنبلاط ومرشحه ريمون إده. الأول اغتيل والثاني أمضى بقية عمره منفياً. كذلك انتخابات 1982 التي أوصلت الرئيس بشير الجميل إلى الرئاسة وسط مقاطعة سنية كبيرة لانتخابه انضم إليها وليد جنبلاط ونبيه بري، وانتخابات 1989 التي أدّت إلى انتخاب الرئيس رينه معوّض على أنقاض حكم العماد ميشال عون الذي مثّل بدوره فئة سياسية كبيرة.
2 ـــــ لعلّ بعض عِبَر الاستحقاقات الرئاسية المشهودة أنها جسّدت، في حالتي 1976 و1982، ما يبدو أن لبنان قد يكون مقبلاً عليه بعد أشهر، وهو انتخاب رئيس في غياب فريق أساسي من اللبنانيين يمثل طائفة، يصار إلى استبعاده أو تجاهله أو فرض أمر واقع عليه. مع أن سابقتي 1976 و1982 تخطتا مشكلة الانقسام الداخلي بحلين متعارضين غير متوقعين: الأول اغتيال كمال جنبلاط أعنف معارضي سوريا في لبنان عهدذاك، فانطلق حكم سركيس من دونه وسلّم نجله وليد جنبلاط بتعايش مرّ مع الوجود السوري في لبنان وإن تحت عباءة والده القتيل. أما الحل الآخر فكان استيعاب الرئيس صائب سلام صدمة انتخاب بشير، ودخوله في حوار معه بعد أيام من انتخاب لم يكن قد اعترف به. لكن الرئيس المنتخب اغتيل.
3 ـــــ في سابقتي 1976 و1982 كان حساب النصاب القانوني ثانوياً وأتى ثمرة توازن قوى جديد في لبنان: في انتخابات 1976 اتفقت واشنطن ودمشق على دعم سركيس ثمناً لدخول الجيش السوري إلى لبنان في مقابل تعزيز موقع الجبهة اللبنانية في الحكم. وفي انتخابات 1982 تفهّمت السعودية دعم الأميركيين انتخاب بشير (ربما لا بد من التذكير بذهابه إلى الطائف في تموز 1982 وحصوله على دعم المملكة لترشيحه بعد جهود بذلها الموفد الأميركي الخاص فيليب حبيب لقاء ضمانات قدمها بشير بحماية المخيمات الفلسطينية. ولم تناقش المملكة معه حينذاك دور سوريا في لبنان أو مصالحها). ورغم المشقة التي واجهها عرابو استحقاقي 1976 و1982 في إكمال النصاب القانوني لالتئام الجلسة، لم يتوهموا في أي حال أن الجلسة لن تنعقد. على نحو مماثل تتصرّف قوى 14 آذار في هذه الأيام إذ تعتقد، مثل سوريا وبشير من قبل، أن مشكلتها لا تكمن في نصاب انتخاب الرئيس من الدورة الثانية للاقتراع، وإنما في نصاب افتتاح الجلسة.
هذا النصاب يقتضي صفقة سياسية يبرمها الخارج، من غير أن ترضي بعض الداخل.
والأصح أن سلام، أقرب السياسيين اللبنانيين إلى السعودية وأخلصهم، كان على طرفي نقيض من موقفها من بشير. وقَبْله كمال جنبلاط سقط ضحية خدعة ياسر عرفات إذ أوهمه أنه سيمنع بمدافعه ومسلحيه التئام جلسة الانتخاب في قصر منصور آنذاك.
4 ـــــ لم تقتصر لعبة «الغالب والمغلوب» وتوازن القوى الإقليمي في انتخابات الرئاسة اللبنانية على الاستحقاقات المشهودة فحسب، بل طاولت تلك التي قيل إنها انتخابات لبنانية مئة في المئة. وفي واقع الأمر لم تكن كذلك. فشهاب لم يختر خلفه الرئيس شارل حلو إلا بعد مكالمة هاتفية بينه وبين الرئيس جمال عبد الناصر. والمآخذ التي كانت للرئيس اللبناني على ترشيح نسيبه، الأقوى حظوظاً حينذاك، عبد العزيز شهاب، شاركه فيها السفير المصري في بيروت عبد الحميد غالب. مع ذلك قيل في انتخاب حلو إنه خيار لبناني بحت، ولم تكن الغالبية الشهابية إلا آخر العارفين بنتائج المكالمة السرية بين الرئيسين اللبناني والمصري. وبسحر ساحر انقلبوا على عبد العزيز شهاب بعدما هنأوه... وصوّتوا لحلو.
الخلاصة نفسها في انتخابات رئاسية أخرى فاخر اللبنانيون بأنها كانت لبنانية مئة في المئة. انتخابات 17 آب 1970 التي أوصلت بفارق صوت واحد الرئيس سليمان فرنجية وأسقطت سركيس. كان في وسع أي نائب آنذاك أن يقول إن الصوت الذي رجّح كفة فرنجية هو صوته، فنقل لبنان من حقبة الشهابية إلى معارضيها. لكنه، في واقع الأمر، كان صوت سرغار عظيموف، سفير الاتحاد السوفياتي في لبنان الذي طلب من جنبلاط التصويت لفرنجية معاقباً الشهابية ومرشحها سركيس على كشف فضيحة خطف طائرة الميراج قبل ذلك بعام. قسّم الزعيم الدرزي ـــــ وكان لا يزال وفياً لشهاب ــــــ أصوات نوابه الثمانية مناصفة بين سركيس وفرنجية. ففاز الثاني.
كان صوت سرغار عظيموف، وليس صوتاً لبنانياً مئة في المئة. كان كذلك صوت توازن القوى الذي يجعل النصاب القانوني همّاً ثانوياً.