عرفات حجازي
أقصى المتاح حالياً الإبقاء على حالة المراوحة وتثبيت الانقسام السياسي

صار من شبه المؤكد أن المشهد السياسي اللبناني فتح على جولة جديدة من المواجهات والتصعيد السياسي بعد تراجع كل الفرص لإحداث اختراق في جدار الأزمة التي باتت أبواب معالجاتها مقفلة من الداخل، لتفتح على مصراعيها باتجاه الخارج، واستدراج اللاعبين الإقليميين والدوليين من خلال المذكرة المرفوعة إلى الأمم المتحدة لاستدراج مزيد من التدخلات في الوضع الداخلي، قافزين بذلك فوق كل ما صدر عن الأمم المتحدة وعن مجلس الأمن لجهة الدعوة إلى أخذ القرارات والخيارات اللبنانية في العناوين المتداولة داخل مجلس الأمن على قاعدة التفاهم الداخلي اللبناني على صيغ توافقية حول مشروع المحكمة، بحيث باتت القناعة مؤكدة بأن الأكثرية تريد التحكم ولا تريد المحكمة وأن لا معنى للعريضة النيابية سوى دفع الدول الكبرى إلى التورط والانحياز إلى وجهة نظر فريق لبناني على حساب سواه وتعميق حال الانقسام وأخذ البلد إلى منزلقات خطيرة.
وبصرف النظر عن الأسباب والظروف والملابسات والحجج التي يقدمها الفريق الأكثري واضطراره للجوء إلى هذه الخطوة، فإن الأهم من كل ذلك أن اللجوء إلى رفع سقف المواجهة والانقلاب على الحوار خلق واقعاً سياسياً نقل المعركة إلى مرحلة جديدة بعناوينها وأولوياتها ومضامينها. ولعل الضحية الأولى لهذا الانقلاب هو أخذ الأزمة إلى المربع الأول، مستهلكة جلسات الحوار التي عقدت بين قطبي المعارضة والأكثرية، فضلاً عن المساعي العربية، وبالأخص الرعاية السعودية والجهود الحثيثة التي بذلتها في الأسابيع الماضية. والضحية الثانية لما جرى هو سقوط قاعدة التلازم والتزامن بين المحكمة والحكومة التي على أساسها بنى عمرو موسى مبادرته العربية، وبالتالي فإن الأكثرية بدأت تطرح مقايضة من نوع آخر: حكومة وحدة وطنية في مقابل انتخابات رئاسية، في حين أن المعارضة تجاوزت هذه العناوين التي لم تعد أساساً صالحاً للحوار والتفاوض، إذ وحده الاحتكام إلى الشعب، كما قال الأمين العام لـ «حزب الله» السيد حسن نصرالله، هو الحل، إذ عندما تقفل أبواب الحوار لا يبقى سوى صيغتين للخروج من المأزق: إما الاستفتاء، وإما انتخابات نيابية مبكرة.
وإزاء هذا الاستعصاء في الأزمة التي زاد تعقيدها سلوك الوضع اللبناني منحى التدويل الكامل، يتساءل المراقبون والمحللون عما إذا كان بالإمكان بعد ما جرى خلق مساحة جديدة للتفاهم بين اللبنانيين بعدما نعى الرئيس نبيه بري الحوار الداخلي، وعما إذا كان الرجل قد فقد الأمل ويئس من الحل بعد سلسلة المبادرات التي قام بها على امتداد أكثر من سنة، محاولاً تحصين الوضع الداخلي بشبكات أمان تحول دون ذهابه إلى منزلقات خطيرة.
حتى الآن يبدو الرجل منذ إطلالته التلفزنية الأخيرة معتصماً بالصمت على رغم المغالطات والتلفيقات التي تصدر عن الفريق الأكثري، مفضلاً عدم الدخول في سجالات تزيد من شحن الأجواء. فهو أعطى الكثير من وقته وجهده وقدراته، لكنه وصل إلى قناعة بأن حوارات الداخل محكوم عليها بالفشل، لأن ثمة صقوراً في الأكثرية تعمل باستمرار على تعطيل الحلول والمبادرات، الأمر الذي دفعه إلى توجيه دعوة صادقة إلى المملكة العربية السعودية والتمني عليها دعوة الأفرقاء اللبنانين اليها، لا لرمي كرة النار بين يديها، بل لقناعته بأن المملكة بما لها من صدقية واحترام لدى الجميع قادرة على أداء دور إنقاذي، إضافة إلى أن مسؤولياتهـــــــــا عن الحال العربية بعد ترؤسها للقمة العربية، معنية بإطفاء أزمات المنطقة وتوفير عوامل الاستقرار فيها من دون أن يسقط من الحساب أن أميركا ليست في وارد تسهيل الحلول في وقت يشتد فيه حبل الأزمة العراقية حول عنقها، وهي تفتش عن خروج مشرّف وغير مذل من ورطتها هناك.
انطلاقاً من هذه المعطيات، فإن الحوارات الداخلية التي أسهمت في إطفاء الحرائق وامتصاص الاحتقانات السياسية والمذهبية لم تعد كافية، والتفاعلات الإقليمية والدولية هي التي ستقرر الاتجاه الذي ستسلكه الأزمة اللبنانية، وإن ما يمكن عمله في الوقت الحاضر هو الإبقاء على حال المراوحة وتثبيت الانقسام السياسي القائم باعتباره أقصى المتاح في الظرف الراهن، وإن المهم ألا تقود الحالة الراهنة إلى صدامات تكون لها تداعيات على مجمل المنطقة. وإذا كانت السعودية والدول العربية تحاذر التقدم بمقترحات لحل الأزمة، فإن الخوف قد يأتي من الخارج الذي يستعجل إقرار المحكمة تحت الفصل السابع مع كل ما يجره هذا الإقرار من تداعيات خطرة حذر منها مساعد وزير الخارجية السوفياتي ألكسندر سلطانوف ووزير خارجية مصر أحمد أبو الغيط الذي قال إن المحكمة ممكن أن تعلن وتنشأ، لكن الخطورة تكمن في عواقب ذلك على الاستقرار اللبناني من دون وفاق داخلي.