إبراهيم الأمين
ضجّت الأوساط الدبلوماسية أمس بالمعلومات عن أن الرئيس فؤاد السنيورة ضمّن رسالته الى الأمين العام للأمم المتحدة بان كي مون طلباً بإقرار مشروع المحكمة الدولية في مجلس الأمن تحت الفصل السابع. وتحدثت هذه الأوساط عن أن بعض العواصم فوجئت بخطوة من هذا النوع، وبالاستعجال غير المسبوق من جانب حكومة بلد مستقل لأن تضع نفسها وبلادها في مأزق يديره أطراف دوليون لهم حساباتهم الكثيرة.
ولاحظت هذه الأوساط أن الأمر يعود بالدرجة الأولى إلى أن المفاوضات التي سوف تجري بشأن طريقة تصرف مجلس الأمن لن يكون لبنان مشاركاً فيها على الإطلاق، وأن تعثراً في المفاوضات بين روسيا من جهة والولايات المتحدة وفرنسا من جهة ثانية يمكن أن يطيح المشروع لأسباب لا تتعلق بالمشروع نفسه بل ربما بأمور تخص مسائل عالقة بين هذه الدولة، كما أن تفاهماً أميركياً ـــــ سورياً (ولو كان مستبعداً بقوة) من شأنه تعديل الوجهة نحو خيارات أخرى. كما أن انفجاراً لحرب أميركية او إسرائيلية في المنطقة من شأنه تهديم الهيكل بما لا يبقي أحداً يمثل أمام المحكمة، مدّعياً أو متهماً..
ومع ذلك، فإن الحوار الجاري بين قوى 14 آذار يتخذ شكلاً يتجاوز كل ما هو معقول. ذلك أن إلحاح القيادة الفعلية لهذا الفريق، المتمثلة بزعيم الغالبية الدرزية وليد جنبلاط، على الشروع سريعاً في خطوات لها بعد انتقامي واحد، لا يقف عند حدود ما يعرف عادة بمصالح الدول، وهو يمضي في خطوة من شأنها نقل البلاد الى منطق آخر، وخصوصاً أنه لا يهتم بأمر الآخرين ولا بموقفهم، وهو يتّكل في هذا السياق على النزعة الثأرية الموجودة لدى فريق كبير من تيار «المستقبل»، وهي النزعة التي تجعل أي حديث آخر غير حديث المحكمة من المحرمات الواجب تجنبها الآن، ومحاربة من يقترب منها. ويعرف جنبلاط، كما النائب سعد الحريري، أن هذه الحالة تفرض آليات عمل تتجاوز القدرات الفعلية لكليهما، ما يعني ترك الأمر كما كان منذ البداية في يد من يقدر على إدارة الملف من الخارج، ويتم ذلك في ظل إصرار أميركي ـــــ فرنسي على السير بملف المحكمة وصولاً الى معاقبة القاتل المفترض من جانب هؤلاء جميعاً، وهو النظام السوري.
ومع أن الدنيا قامت ولم تقعد لمجرد أن أعلن الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله رأياً فيه أن من يضع المحكمة إنما يفصلها على قياس المتهمين المفترضين ووفقاً لأحكام صادرة مسبقاً، فإن فريق 14 آذار نفسه، من الحريري وجنبلاط الى آخر محازب، يعلنون قناعتهم غير القابلة للشك بأن سوريا هي التي تقف خلف الجريمة، وأن حلفاء سوريا في لبنان هم من سهّل الأمر لها سياسياً أو لوجستياً. ويصعب على هؤلاء القبول بمراجعة ولو تقنية للتحقيق اللبناني أو الدولي الذي يستمر منذ وقوع الجريمة، وبرغم تبدل الوقائع ألف مرة منذ كانت «الغرفة السوداء» تعد البيانات والاتهامات والشهود، فإن هذا الفريق يصر على رأيه، وهو يبحث في توفير أدلة أخرى لأجل تثبيت ما هو محسوم في ذهنه من أن سوريا هي من قتل الحريري. ولا يخلو بيان سياسي أو خلوة حزبية أو اجتماع لهؤلاء من عرض وقائع مفترضة عن الجريمة وطريقة الإعداد لها أو تنفيذها وما تلاها أو سبقها من جرائم، وهو الأمر الذي يفترض برأيهم القيام بكل ما يلزم لرسم حدود مسبقة لآلية التعامل مع المحكمة من الجانبين السياسي والقانوني، وهو الأمر الذي وضع سقفاً مسبقاً للنقاش، كما رسم آلية العمل خلال إعداد مشروع القانون، ولم يكن من قبيل الصدفة تهريب الأمر على شكل وضع الملف في عهدة فريق 14 آذار دون غيره، وحتى عندما كان وزير العدل شارل رزق يشارك في قسم من هذا الأمر كان الإعداد الفعلي يأخذ في الاعتبار حاجات الفريق الأساسي، ولم يكن يوماً فريق 14 آذار في وارد مناقشة أصل المسوّدة، وكرر جنبلاط مراراً القول إنه هو من سوف يقرر ما إذا كانت الملاحظات التي يقدمها الفريق الآخر قابلة للبحث أم لا من باب الحديث الدائم عن محاولة إفراغ المحكمة من مضمونها، دون أن يعرف أحد هذا البعد القانوني والتشريعي الذي سكن فجأة عقل أمير حرب قتل ولم يحاسب يوماً على أفعاله.
إلا أن الأمور سوف تسير بشكل مختلف من الآن فصاعداً وخصوصاً بعدما تبيّن أن المشاورات التي جرت حتى الآن لم تحسم موقف روسيا التي توفد الاثنين المقبل الى بيروت ودمشق نائب وزير خارجيتها ألكسندر سلطانوف لأجل توضيح الموقف ربطاً بما تلح عليه فرنسا وتدعمه الولايات المتحدة، وثمة جديد في الموقف الأميركي لناحية التأييد الكلي لطرح الرئيس جاك شيراك بإنجاز الأمر في أسرع وقت ممكن، مع وضع تاريخ يسبق 15 أيار المقبل تاريخ مغادرة شيراك نهائياً مقر الإليزيه، وهو الأمر الذي يستدعي البحث في الموضوع من زاوية السير نحو اشتباك إقليمي ودولي على خلفية المحكمة، أو تسوية تؤجل الملف إلى وقت آخر، علماً بأن المعارضة اللبنانية تتصرف على أنها في حل من أي قرار يصدر عن مجلس الامن ولا يخضع لتوافق لبناني، كما أن سوريا سوف تتصرف مع أي قرار ينالها على أنه عمل عدائي، وفي الحالتين تبدو الصورة أقرب إلى اشتباك لا يُعرف مداه بعد ولا خسائره ولا حتى حدوده، فكيف إذا كان من ضمن آليات الضغط الأميركية المباشرة على أطراف في المنطقة تعتقد واشنطن أنهم يتحمّلون مسؤولية عن التدهور القائم الآن في العراق والذي يصيب من جنودها مقتلاً ومن مشروعها فشلاً.
وفي انتظار ما ستؤول إليه الأمر سوف يكون على اللبنانيين الانتظار لمزيد من الوقت، ولا يعرف بعد كيف ستتم تعبئته، هل بمزيد من المواجهات الكلامية الحادة أم ان الامر سوف يتطور الى ما هو أسوأ في ظل انكشاف امني هو الأكبر لهذا البلد الصغير منذ توقف الحرب الاهلية، وحيث يبدو أن جيلاً جديداً من اللبنانيين لم يتلقّ، ونحن في ذكرى الحرب، الرسالة الدموية لحرب جديدة.