أنسي الحاج
«لوين رايحين؟» يسأل اللبناني، «لوين آخدينّا؟». لو عرف اللبنانيون أن زعماءهم آخر من يعلم لهربوا فوراً.
يشعر الواحد بالخجل حين يكتب في أجواء كهذه. لا حين يكتب عن غير الواقع السياسي والمعيشي بل حين يكتب، مجرّد يكتب.
مثلما لا يُجابَه القاتل بالكلام لا تواجَه حالات الاغتيال المعيشي والمصيري بالأماني. هناك ظروف لا ينفع فيها شيء. ظروفُ فشلٍ عارم. نحن الآن في ظرف كهذا.
لو اعتاد اللبنانيون مواجهة أزماتهم الكبرى بالثورات الشعبية لا بالانقسام العشائري والطائفي لكانت اللحظة الحاضرة لحظة ثوريّة تامّة. ثورة شعب على زعمائه وخاطفيه، لا تبخل بسفك دمها من أجل خلاص، وستكون أساساً لوحدة وطنية صادقة. دمٌ يغسل خطايا الزعماء كما يغسل خطايا الشعب الذي أخطأ تاريخه ومسيره ومصيره طوال أجيال الاستسلام للجَهَلة والمضلّلين.
هذه الثورة كان يجب أن تحصل في أكثر من مرحلة. من 1975 إلى الآن، خصوصاً. ودائماً كان يسرق مكانَها الانقسامُ ليطفح اليأس، وتذوب الإرادة الداخلية أو تتراجع أمام الدسائس والمصالح الخارجيّة.
وأكذب ما يكذبه الكلام حين يقول لنا المسؤولون العرب: «مشكلتكم داخلية وحلّها داخلي، تفاهموا!»، وهم العارفون بأنّ أزرار مشاكلنا تُكبَّس من الخارج، ولسنا في الداخل سوى مواد للطحن، حالنا حال العراق وفلسطين والسودان والآن دول المغرب. حاصدة تَحصد تارة تحت اسم السلام وطوراً تحت اسم الديموقراطية، حيناً تحت قناع الثورة وحيناً تحت قناع الإسلام، وأهل العلم يؤمّلوننا همساً كهَمْس الواقفين على أسرار الآلهة: «بضع سنوات وترتعون في البحبوحة، بعد أن ينجح مخطط تفتيت المنطقة»!...
كلمة السرّ منذ 1975. الكلمة الشبح منذ سقوط الأمبراطورية العثمانية. اللغم المزروع منذ اتفاق سايكس ــــــ بيكو. أيّ تفتيت بعد هذا التفتيت؟ دول ــــــ شوارع؟ دول ــــــ لهجات؟ دول جامعة الدول العربية رقم 1 والعربية رقم 2 والعربية رقم 3 والكرديّة والدرزية والعلوية والمسيحية والشيعية والسنّية والتركمانية والبربريّة؟ دول القبائل والعشائر والخواجات؟ تفتيت ماذا؟ تفتيت قلب القلب وذرّة الذرّة وحبّة تراب حبّة التراب؟ وبحبوحة ماذا بعد هذا المَعْس؟ بحبوحة هياكل عظميّة، خيالات كروم، أجناس فُكّكت أوصالها وتاهت في أيّامها تتحرّك مثل موتى يتحرّكون، تجعل أشدّ الناس رفضاً للماضي العربي المتحجّر يتحسّرون عليه، فقد كان، على جموده، يترك بعض الأمل بالتغيير، على الأقل وربّما على الأفضل، أمل جنونِ اليأس، وأمّا بعد تفتيت التفتيت فأي موت يبقى لقيامة وأيّ نبض في أي جثمان؟
«لوين رايحين؟ لوين آخدينّا؟».
المراد هو تعميم الاستسلام بعد اقتلاع الأظافر والأنياب والأعصاب.
لكن الذي يأخذنا ليس هو الذي يأخذنا. لا لأن الآخذ مأخوذ بل لأن آخذ المأخوذ مأخوذ أيضاً. مأخوذ بأوهام سلطته وأوهام تفوّقه وأوهام فكرته عن العالم الأفضل.

إصرار بعض المطربات على غناء الشعر الصعب ينطوي على تحدٍّ أشبه بمصارعة الزمن. لا ريب أنه زمن الانحدار الفني الشامل، لا ريب أيضاً أنه زمن الإصرار على مغالبة هذا الانحدار. وإذا كان هناك عولمة للهبوط ففي موازاتها عولمة للنوعيّة. في العالم العربي، وبعد شجاعة الأخوين رحباني في تلحين قصائد نخبوية كتلك التي لسعيد عقل وجبران، ونجاح «إيصالها» شعبيّاً بحصان طروادة صوت فيروز، وقبل ذلك إقدام أُمّ كلثوم على إنشاد رباعيات الخيّام وأحمد شوقي وإبراهيم ناجي وجورج جرداق، وبعد ذلك وصولاً إلى عابد عاذريه الذي كان في جيله أول مَن وَقَف صوته وألحانه على الشعر العربي الصعب قديمه وحديثه، نجدنا منذ سنوات أمام ظاهرة تستدعي التأمّل هي ظاهرة إقبال المطربات ــــــ خصوصاً المطربات ــــــ على الشعر غير الجماهيري وتقديمه لا للنخبة بل للجماهير. ماجدة الرومي، هبة قوّاس، غادة غانم، وأمس، في قاعة الأونيسكو، جاهدة وهبه. هبة وجاهدة تلحّنان ما تغنّيان، ممّا يحرّرهما أكثر في اختيار النصوص. لقد لحّن الرحبانيان نثراً واحداً هو مقال «المحبّة» لجبران من «النبي»، ويكاد معظم ما لحّنته وأنشدته هبة قواس يقتصر على النثر. وفي ألبوم جاهدة وهبه «كَتَبْتَني» أغنيات نثرٍ عديدة، وبعضها شديد التكثيف. ومع هذا «وَصَلَتْ». وكانت حفلتُها، وختامها اللاهب مع قصيدة غونتر غراس «لا تلتفت إلى الوراء» (بتعريب للشاعرة العراقية أمل الجبوري) لحظة نادرة انصهرت فيها قوّة حنجرة بحرارة شعور على ألحان متنوّعة، شفّافة، حاملة للكلمات حِمْل الأمّ لطفلها ــــــ لحظة تكريس ولادة جاهدة وهبه.
لا نَخَفْ على الغناء. لا نَخَفْ على الفنّ، مسرحاً، رسماً، سينما. لا نَخَفْ على الشعر. لا نَخَفْ على اللحظات النادرة. سوف تظلّ قليلة وسوف تظل تملأ العالم.

في تقديمه لكتابه عن رونيه شار، قال بيار بيرجيه: «ليس لهذا الكتاب ادّعاء غير أن يقول، وبكلّ ما أمكن من الحسّ الإنساني وبدون أي حذاقة بحثيّة، مَن هو الشاعر في عالم يَهذي، في عالم قاتل».

نعيب على البخلاء التكديس فلا يتنعّمون. «هل سيأخذونها معهم؟» نقول عن ثروتهم. ونتخيّل لو كنّا محلّهم.
هذا الموقف لا يخلو من الحسد حتّى عند أهل الطيبة. وفي الاستغراب هنا غفلة عن الدوافع غير الماليّة عند البخيل. فهذا كائن يُعتّمه الخوف وروحُهُ منقوعةٌ بحرمان أقسمت ألّا تعود إليه مهما كلّف الأمر. قَسَمٌ في أساسه كبرياء ضخمة وحسد وطيد، أَفْعَل كثيراً من حسد الفقير للغني. الأول حَسَدٌ قرّر أن يتحوّل هدفاً للحسد والآخر حسد مفترش قَهْرَه يكتفي بلَعْن الحظّ وإيغار الصدر ضد السماء.
البخيل يقيم في هاجس «الانقطاع». قراره الامتلاك لا التمتّع. التمتّع بالامتلاك. الإنفاق خَرْق لجدار الحماية. نظام البخيل صَرْفُ ما لا مفرّ منه وكل ما عداه خطيئة. الأمان هو في التشبّث بالملْك. تَحسُّس الملك هو هو المداعبة، هو هو النشوة. كل إنفاق لعنة ما لم يحصد مثله أو أكثر منه. البخيل يحتقر السخيّ أكثر ممّا يحتقر السخيُّ البخيل. وأمّا المبذّر ففي نظر السخيّ انحلاليّ سطحيّ وفي نظر البخيل منتحرٌ يستحقّ مصيره.
ثمّة علاقة بين البخل والعفّة. علاقة «حماية»، التخبئة من أجل المستقبل. كلاهما يجري عليه الزمن دون انتباه، فالانتباه مركّز على «الاحتفاظ»، هو بسلاحه السرّي وهي بغشائها. الناسك لا يستطيع أن يُظهر كرَمَه، فبماذا يتكارم العائش على الزعتر والعسل؟ وماذا يمتلك مَن أهدى نفسه للمُطْلَق؟
وعلاقة بين البخل وتقديم الشهوة على النشوة. دوام الشَبَق بتعليق الممارسة. ادّخار الطاقة. البخيل يؤمن بأن التكديس حاجز دون المكروه. الامتلاك يُبْعد الموت. يجلب حسد الناس لكنّه خرزة زرقاء ضدّ الحَسَد الأكبر الذي هو عين الدهر. البخل درع ميتافيزيكية.
الرخو في البخيل هو أنه، حين يشتهي امتلاك شيء أو أحد، لا يتراجع عن البذل، وقد يزايد. لا أحد مثله يُقدّر المال. المال عنده رمز أكثر ممّا هو وسيلة، رمز يرقى إلى مصاف المقدّس. كلما استعصى عليه مطلوبه سخا بشيء من مقدَّسه. وكلما دَفَع أكثر استمتع أكثر.
عند هذا الصوفي المادي حلمُ ألم. مازوشي لا يبحث عن ساديّ ولكنْ عندما تسوقه إليه الحاجة يَفْتح له بوّابة سمسم. لا تطلبْ من البخيل، دعه يستطلبك. تكبّر عليه: في البداية يكرهك، ثم يندهش باستغنائك، ثم تتدرّج به المراحل حتّى انصداع روحه الصخريّة، وإذا كان له فيك مأرب قد يَجْلس ويساومك.
يظنّ الكريم أن الكَرَم عطيّة من الله. البخيل يظنّ أن البخل عونٌ من اللّه. كلّ منهما يبحث عن حماية.
الكريم يهدى على حياته. البخيل يُهدى بعد مماته.
لا تحسد البخلاء على ثروتهم فحسب، بل تسخط لمقدرتهم على مقاومة المغريات. ومن غيرتك تتهمهم بالفشل الجمالي، بالعنّة النفسيّة. تقول: «لو كان معي كذا بالألف ممّا يملكه فلان لرأيت ماذا أفعل! لرأيت كيف أعيش!». وما أدراك؟ ربّما يفعل أكثر، وربّما ضخامة الثروة تُزهّد. تُزهّد فتدفع، من سأم، إلى المزيد من الثروة. تُزهّد بالمتع كما يُزهّد السقف الأعلى بملامسة أي سقف آخر. الشعور بالقدرة على شراء كل شيء يصيب صاحبه بالتخمة قبل الأكل. تستقلّ حركة تولُّد المال من المال بميكانيكيّتها وتمشي مَشْيها المحتّم على مشارف الأرض حيث تنعدم الرعشات البشريّة «العادية» لتحل محلّها رؤى العَظَمة المتألّهة قبل أن تكتشف، أحياناً، أنها ليست غير زَبَد الفراغ في قمّة مواجهته لنفسه.
الفقير وحده «يحبّ» المال، لذلك يهرب المال منه. الغني يعامل المال ببرود المرأة الباردة، لذلك يعشقه المال ويلحق به. المال مازوشيست. وطبعاً ساديك. حَسَب أينَ أنت...

تُرْهَقُ ولا ترتوي، تتهتّك ولا تَصْدم، تصدم ولا تُنفّر، تَخْلع العذار ولا تَرْخُص، ترخص ولا تُمَلّ، ترتعش ولا تتحرّك، تتعرّى ولا تَنْقُص، تَمْجنُ ويتضاعف غموضها، تقيم حدوداً لم تكن مرئيّة فوق آفاق لم تكن مرئيّة، تقول لك: «معي لا حدود»، وتبدأ فيكَ حربكَ أنت مع حدودكَ أنت.