جان عزيز
ماذا يمكن أن يعني الحوار اللبناني ــ اللبناني في سويسرا، إن لجهة الندوتين المنعقدتين قبل أسبوع، أو لجهة الحديث الكثير عن احتمالات وترقّبات أخرى؟
أوساط «حوارية» بامتياز، متابعة للسوابق وللحاليات، تشرح خلفيات «الحدث» شكلاً ومضموناً.
في الشكل أولاً، وخصوصاً لناحية «الدوافع» السويسرية، تشير الأوساط نفسها إلى أن الاهتمام الممكن للكونفدرالية الهلفتية بالمسألة اللبنانية، يأتي في سياق «الهواجس البحثية» لبعض الدول والبلدان المحايدة، أو المهمّشة في خريطة السياسات الدولية الكبرى. ذلك أن مناخاً من «الفراغ السياسي» في بعض الدول، أو إحساساً بالثانوية مقارنة بعواصم القرار والتأثير، يدفع منذ أكثر من عقد، عدداً لافتاً من الشخصيات والمنظمات غير الحكومية في عدد من الدول الأوروبية، إلى الانكباب على الدراسات والأبحاث والمقاربات للمسائل الدولية الساخنة. ويتلاقى هذا الانكباب عادة مع إقبال من الأطراف المتنازعة في النقاط المدروسة، على التجاوب مع الدعوات الموجّهة إليها. وذلك على خلفيّة الثقة بحيادية هذه الدول، والتطلّع إلى تسجيل خروق في جدران «الانحياز الغربي» التقليدي حيال بعض القضايا المطروحة. ومن هذه الزاوية تسجّل اللامصادفة في أحداث مثل «اتفاق أوسلو»، أو «وثيقة جنيف» أو السلسلة الطويلة من أسماء مراكز الأبحاث الشرق أوسطية في مختلف الدول الاسكندينافية، وصولاً طبعاً إلى النمسا وخصوصاً سويسرا. غير أن «المسألة اللبنانية» تحديداً حظيت بتاريخ سويسري لافت، أبرز محطتين فيه امتدّتا على مدى نحو عقدين.
المحطة الأولى كانت بين تشرين الأول 1983 وآذار 1984، مع مؤتمري الحوار اللبناني في جنيف ولوزان، والثانية انطلقت في حزيران 2001 لتخبو تدريجياً في الربع الأول من عام 2005، مع «اللقاء اللبناني للحوار». فأي أفق لمحطة ثالثة في ضوء التجربتين السابقتين؟
تلاحظ الأوساط نفسها أن ثمة فارقاً أساسياً بين المحطتين اللبنانيتين السويسريتين. فالأولى، جنيف ولوزان، جاءت سياسية الطابع بامتياز، وتسووية التطلّع والهدف، مع رعاية عربية ودولية. والأهم أنها انطلقت بدفع من «نكسة» لبنانية داخلية، جعلتها ممكنة، لا بل ضرورية. ففي خريف 1983، كان الطرف المسيحي الأساسي في لبنان قد تلقّى خسارة كبيرة بعد حرب الجبل، جعلت مؤتمر جنيف ممكن الحصول. وفي آذار من العام التالي كانت خسارة الطرف نفسه قد باتت أكبر بعد أحداث 6 شباط 1984 في بيروت، وهو ما جعل الذهاب إلى مؤتمر لوزان ضرورة للوصول إلى تسوية ما، على قاعدة الحد من الخسائر.
أما المحطة الثانية فكانت أكثر أهمية وبنيوية. ففي حزيران 2001، ووسط المأزق اللبناني المتفاقم بعد اندثار «ربيع دمشق» العابر، انعقد في مونترو في سويسرا لقاء اتّسم بطابع مشاركة المجتمع المدني اللبناني، بعيداً عن مجتمعه السياسي. علماً أن المشاركين فعلياً كانوا يمثّلون «حساسيات» سياسية واضحة، شبه حزبية مباشرة من الجانب المسلم، وأقل حزبية من الجانب المسيحي، في ذروة تصحير المجتمع السياسي المسيحي المضطهد بنيوياً في ذلك الوقت.
هكذا مثّل لقاء مونترو محاولة تلمّس لأي ثغرة ممكنة، مثلما انعكس إلى حد ما، تعبيراً عن موازين القوى المختلّة، لمصلحة الطرف المسلم وعلى حساب الطرف المسيحي. فغابت العناوين المسيحية الصريحة، مثل انسحاب الجيش السوري من لبنان، وحضرت العناوين المسلمة الواضحة، مثل مكتسبات «الطائف»، واحتضان «المقاومة» وحمايتها. وشاءت مصادفات الأحداث أن تعطي هذا «اللقاء» الجنيني أبعاداً أكثر أهمية. فبعد أقل من شهرين على انطلاقته السويسرية، انقضّت سلطة الوصاية على المعارضة المسيحية في 7 آب 2001. فجاء الاجتماع الثاني للقاء نوعاً من تضامن «حزب الله» مع «لقاء قرنة شهوان»، وسط تنصّل حريري يومها، وتواطؤ من باقي السلطة. وبعد أقل من شهرين لاحقين، حدث زلزال 11 أيلول الأميركي، فكان اجتماع «اللقاء اللبناني للحوار» صورة زاهية من صور التضامن المسيحي هذه المرة مع القوى الإسلامية اللبنانية المتهمة بالإرهاب تعميماً.
هكذا تنقّلت اجتماعات اللقاء المذكور، من مونترو إلى اللقلوق فبرمانا وبيت الدين، قبل أن تستقر دورية في بيروت، لتصير ورشة عمل ثابتة، بحثاً عن «المساحات المشتركة»، لكون الورشة تعثّرت واصطدمت بعراقيل عدّة، أبرزها شدّة قبضة الوصاية على الطرف المسلم وخلل التمثيل المسيحي في اللقاء، على قاعدة «مدنيين» مضطهدين من السلطة، بإزاء «حزبيين» مستفيدين منها أو حتى شركاء فيها. فعشيّة الاجتياح الأميركي للعراق، تضامن مسيحيو «اللقاء» مع مسلميه في رفض الحرب. أما عشية التمديد الرئاسي وصدور القرار 1559، ففشل الملتقون في إيجاد مساحة مشتركة حيال الحدث.
بعد أسابيع تسارعت التطورات اللبنانية، وقع زلزال 14 شباط 2005، أعيد خلط الأوراق، عاد «المجتمع السياسي» المسيحي إلى حضوره الحزبي الكامل، وتفسّخت وحدة «المجتمع السياسي» المسلم، مثلما فرضها نظام الوصاية السورية. حضر «الأصلاء» حزبياً وطوائفياً، فغاب «الحواريون» مدنياً وميثاقياً، إلى أن اندثر «اللقاء اللبناني للحوار».
أي أفق للمحطة السويسرية الثالثة قبل أسبوع؟ لا سيناريو مغلوب مسيحي يسعى إلى تسوية على غرار الثمانينات، ولا سيناريو «مجتمع مدني» ناشط مهجوس بحوار «المشترك»، على غرار مطلع الألفية. وفي ظل الغيابين يبدو المأزق سيد الموقف اللبناني، مع استمرار مساعي «الترف» للخروج منه، على أيدي إنسانيين مثاليين موزّعين من فيورغات اسكندينافيا إلى بحيرات الكانتونات السويسرية، لا أقرب من ذلك.