عرفات حجازي
نجح لبنان في تجاوز الاختبار الصعب وتمكنت القيادات السياسية والروحية من احتواء الفتنة ووقف تداعياتها وحصر الجريمة في إطارها الفردي والجرمي، وعزلها عن أي بعد سياسي أو مذهبي. وإذ شكل الإجماع السياسي على إدانة الجريمة صمام أمان لتجاوز هذا القطوع، فإن الاهتمام تركز على المحرضين والاستهدافات التي سعوا إليها بعيداً عما يسمّى «حال الثأر» لإسقاط البلد في أتون الفتنة واستحضار مآسي الحرب التي تجاوزها لبنان.
وقد طرحت الجريمة بتوقيتها وظروفها وملابساتها أكثر من علامة استفهام حول الوضع الأمني المكشوف وتداخله في الأزمة السياسية، خصوصاً أنها ربطت بتداعياتها بما حصل في 25 كانون الثاني من أحداث في جامعة بيروت العربية، وإن انسداد الأفق في الأزمة السياسية سيظل بيئة حاضنة لكل التوترات وأنواع الانزلاق إلى الفوضى، وهو ما أجمعت عليه مختلف القوى السياسية، مشيرة إلى أن مناخ العنف السياسي يسهِّل وقوع الجرائم ويوفر التربة الصالحة لزرع القلاقل والفتن. من هنا كان استشعار الخطر الذي أملى على رئيس «اللقاء الديموقراطي» النائب وليد جنبلاط التحرك السريع بدءاً من جولاته في منطقة الجبل التي شهدت توترات بين حزبه وخصومه السياسيين، مروراً بالحرص الذي أبداه على منع الفتنة بعد عملية الخطف وانتهاء بالكلام الهادئ والهادف الذي قاله أثناء التشييع، وما تضمنه من إشارة إلى المقاومة، وهو كلام مناقض للغة السياسية التي استخدمها منذ أشهر ضد المقاومة.
والموقف المنعطف لوليد جنبلاط كان مثار اهتمام ومتابعة على كل المستويات السياسية والشعبية والدبلوماسية للوقوف على الأسباب التي دفعت الرجل إلى تغيير مواقفه، وهل هذا التغيير لحظوي ومجرد حالة استيعابية لواقع متفجر، أم أنه استيعاب يؤسس لمعالجة الأزمة السياسية وله ما بعده.
القراءات تعددت وتنوعت في مضمون الخطاب السياسي لرئيس «اللقاء الديموقراطي». فهناك قراءة ترى مواقف جنبلاط الأخيرة بمثابة «انقلاب كامل» بدّل في المشهد السياسي وأرخى جواً من التفاؤل وأوحى بعد كسر القطيعة مع قيادات سياسية بإعادة تحريك خطوط التواصل بينها، وهو أبدى رغبة في القيام بزيارة الرئيس نبيه بري لتلمس مدى إمكان استئناف مبادرات الحلحلة انطلاقاً من قناعته بأن الوضع السياسي المقفل على الحلول سيظل مفتوحاً على مفاجآت أمنية خطيرة، وأن تعطيل الألغام وإبعاد شبح الفتن المذهبية يستوجبان العودة إلى التلاقي.
وهناك قراءة ثانية تنصح بعدم تحميل كلام جنبلاط أكثر مما يحتمل. لقد خاف الفتنة قبل جريمة «الزيادين»، وهو منذ فترة يطلق مبادرات انفتاحية، ويدعو أنصاره ومحازبيه إلى قبول التعدد السياسي في الجبل ورفض الصدام مع الآخرين، ثم طور هذا الموقف بعد خطف المغدورين غندور وقبلان واستشهادهما بالحديث عن وجوب الاحتكام إلى الدولة وإلى التوحد تحت راية الجيش، وهو ما ردت عليه المعارضة بإيجابية، مشيرة إلى أن جنبلاط لم يذهب إلى الاستثمار سياسياً على الجريمة ليضخ مزيداً من التوتر، وهذا بحد ذاته انعطافة يمكن البناء عليها أقله لتثبيت قواعد الصراع السياسي السلمي وحماية السلم الأهلي الذي يجب أن يعتبره الجميع خطاً أحمر لا يسمح لأحد بتجاوزه تحت أي اعتبار. من هنا فإن المعارضة تعاملت مع كلام جنبلاط الإيجابي بكثير من التريث ولم تعط موقفاً صريحاً بانتظار أن تتبلور جوانب الصورة أكثر، خصوصاً بعد التجارب المرّة والقاسية التي مرت فيها العلاقة بين «حزب الله» وحركة «أمل» تحديداً وبين رئيس الحزب التقدمي الاشتراكي، ما يعني أن من المبكر الحديث عن مبادرة قدمها جنبلاط، بل مجرد عناوين تحتاج إلى ترجمة وممارسة في السياسة، وهو ما سيتضح لاحقاً من مواقف مكملة للرجل.
إلا أن ثمة قراءة لافتة يقدمها مرجع سياسي يزعم أنه الأكثر خبرة واختصاصاً بالظاهرة الجنبلاطية وتقلباتها، فيقول إن جنبلاط مهما شرّق وغرّب فلن يستطيع الخروج من جلده ومن تاريخه النضالي والقومي. قد يخطئ في التقديرات والحسابات ككل السياسيين، وقد يذهب بعيداً في خصومات ويحرق خلفه كل المراكب، لكنه على المفترقات المفصلية لا تخطئ بوصلته الاتجاه. وفي قناعته أن جنبلاط بدأ عملية مراجعة للمرحلة الماضية بكل ما حفلت به من تطورات ومواقف في ضوء استشراف دقيق لآفاق المرحلة المقبلة، فالرجل أقدر السياسيين في فريق الموالاة على التقاط الإشارات، والأكثر إحاطة بالمستجدات الدولية والإقليمية بفعل شبكة علاقاته الدولية الواسعة، ولعله أدرك أن الوقائع تشير إلى هزيمة المشروع الأميركي في المنطقة وإلى عقم الرهانات عليه، كما أن اجتماعات شرم الشيخ خلال اليومين المقبلين ستشير إلى بدء مفاوضات مع كل من سوريا وإيران، وهي معطيات تدخل في حسابات جنبلاط الذي نقلت عنه مصادره أن من غير المنطقي أن نبقي على القطيعة الداخلية في ظل تحرك التسويات الإقليمية.