صباح الخير يا جوزف
  • ديما صادق

    أنا، كما تعرف، لا أتقن الكتابة. لن أستطيع أن أنثر لك مقالات ورسائل ببلاغة كل من كتبوا عنك، مع أنني لم أقو على قراءة أي منهم. اعذرني، هي المرة الأولى التي أرى فيها كتابات عنك و أتجاهلها.
    «طيب ستنّي، اذا ما بتعرفي تكتبي وفري على نفسك عناء الاعتذار وعني عذاب القراءة». ذلك كان سيكون على الأرجح جوابك الساخر لي، مصحوباً طبعاً بتلك الابتسامة الطفولية، الماكرة، الساحرة. لا أتقن الكتابة يا جوزف ولا أحبها. لكنني منذ ذلك الأحد المشؤوم وأنا أبحث عن أي متنفس للتحدث اليك: أتصل بك، أذهب الى مكتبك، الى بيتك... يستقبلني صمت قاس... بل هو صمت مرعب. صمت يحذرني من أن غداً سيكون بالتأكيد أصعب من اليوم. من أن ما نعيشه الآن هو صدمة تلقّي الخبر، أما ما سنعرفه غداً فهو الضياع في حرقة الفراغ الدي تركتنا فيه.
    تعود السبت الى بيروت. كنا على موعد فيها، أتذكر؟ «بشوفك ببيروت بعد كم يوم، أنا مش مأخر». تأخرت بعض الشيء، لكن لا يهم. ما يهمني هو السبت والأحد. سنعود ونراك ونسهر معك، ولو في الكنيسة. هناك ستكون قساوة الصمت أقل رعباً. فمجرد حضورك يضفي على المكان، أيّ مكان، شعوراً غريباً بالطمأنينة والبهجة. البهجة... أعتقد أنك كنت تعرف تمام المعرفة سر قدرتك العجائبية على تسريبها الى نفس كل من كان حولك. ولكنني نسيت أن أسألك لماذا عجزت عن تسريبها ولو بجرعة ضئيلة الى نفسك؟ لمادا تلذذت في إغراق نفسك في ذلك «السبلين» Spleen البودليري؟ لماذا تركته يتمكن منك، وربما يقتلك؟
    تعبت من الركض وراء حلم عربي ما زال يهرب منك أبعد فأبعد؟ أوَلا تعرف أن غيابك هو ضربة جديدة تضاف الى نكبات ذلك الحلم؟
    أوجدت لنا تعريفاً جديداً ومعقّداً لمفهوم نضال اليوم، يتمثل في المزج بين الحرص على العصرية والتأكيد على الالتصاق بمشروع حزب الله السياسي بعيداً عن الدين والطائفية. معادلة معقدة، لا يزال الكثيرون يرفضون التسليم بامكان وجودها... فلماذا تخليت عن محاولاتك الدؤوبة لتعريفها ونشرها؟ بالله عليك قل لي ألم تكن تعرف كم كان هذا المشروع بحاجة اليك؟ هل كان وضعنا بحاجة الى مزيد من التعقيد؟!
    «ديما، مش مبسوط!». لطالما سمعت هذه العبارة منك، ما زال رنينها يصدح في رأسي. الى أن جاء يوم ميمون تغيرت فيه تلك اللازمة لتأخذ مكانها نبرة فرح شبه حقيقية: «سنؤسس الأخبار». كم كانت جميلة تلك المرحلة، كم كانت جميلة تلك الحركة والحماسة التي دبّت في روحك لبضعة أشهر. وكم كانت عيناك تنبضان فرحاً إبّان زيارتَي زياد ابنك الأخيرتين الى بيروت. وحده وأمية كانا قادرين على ارجاع السعادة اليك. آن لهما أن يعرفا مدى حبك لهما يا جوزف.
    لم يسبق لي يا جوزف أن استنجدت بك وخذلتني. لم يأت يوم لم تردّ فيه على تساؤلاتي وحشريتي. فهل لي أن أسألك سؤالاً أخيراً؟ أرجوك يا جوزف قل لي كيف يمكنني التعود على غيابك؟ سألت كل من حولي، وما من إجابة شافية أقنعتني. وحدها أجوبتك كان لها مفعول السحر في عقلي، فهل يمكنك أن ترشدني الى ما أفعله الآن؟
    من سيشرح لي ما يحدث «الآن.. هنا»؟
    أين لي أن أبحث عن روح النكتة الماكرة والخطيرة التي دلّلتنا بها؟
    أين لي أن أجد ساعات دردشة أثمن من تلك التي كنت أكافئ نفسي بها معك؟
    من سيرشدني في عملي الجديد؟
    ستظل هذه الأسئلة غصة مخنوقة في الحنجرة. لكن دعني على الأقل أسرد بعض ما كان عندي لك: اتصل بي السمسار أثناء وجودك في لندن، أعتقد أنه وجد لك شقة بالمواصفات المطلوبة. أتيت لك بإحدى المنحوتات الافريقية التي تحب، ستعجبك على الأرجح، أضعها في المكتب أم في البيت؟
    هل لي أن «أدردش» معك حول تقرير سيمور هيرش الأخير؟
    على فكرة، ما زال «سي دي» الحفلة النادرة لأم كلثوم عندي، حفلة الشيطان كما تسميها، هل يمكنني الاحتفاظ به؟
    هل انتهت منافستنا على اكتشاف مطاعم بيروت الجديدة؟.
    «بشوفك ببيروت، أنا مش مأخر»
    أتعلم يا جوزف، هناك مثَل صيني يقول:
    «أصعب ما في الدنيا ثلاثة أشياء: أن تحاول النوم و لا تستطيع، أن تحب شخصاً لا يحبك، أن تنتظر شخصاً لن يأتي أبداً...