strong> مهى زراقط
وصل الأهالي باكراً إلى المدرسة صباح ذلك السبت، لكن من دون اصطحاب أولادهم. إنهم مدعوون إلى اجتماع عام للاطلاع على «استراتيجيا» السنة الدراسية والمساعدة المطلوبة منهم في البيت لإنجاح خطة المدير وفريق عمله من المعلمين والمعلّمات.
مريم، السيدة العائدة حديثاً من أميركا بهدف تعليم أولادها اللغة العربية، كانت ترتدي بنطلون جينز أزرق و«تي شيرت» قطنية بيضاء. لا تسرد هذا التفصيل لمحدّثيها من دون مبرر. كان يمكن أن لا تتذكر ما ارتدته ذلك الصباح على عجل كعادتها، لولا المفاجأة التي واجهتها فور دخولها إلى الصف الذي عُقد فيه اجتماع الأهالي. كانت غالبية الأمهات ترتدي ثياباً تليق بدعوة إلى العشاء أو حتى حفل ساهر، وبدا أن الماكياج الذي يغطّي وجوههن استغرق من كل واحدة ما كان يستغرقها لإيصال الأولاد إلى المدرسة في نيوجيرسي قبل الالتحاق بعملها.
وبناء على هذه الملاحظة وجدت مريم نفسها تقف قليلاً قبل أن تختار مكان جلوسها «تماماً كاليوم الأول في المدرسة، كنت أبحث عن وجه أرتاح إليه لأجلس قربه على المقعد الدراسي». هذا الوجه كان لروان، سيدة تشبهها لأنها «لم تكن تضع ماكياجاً وارتدت ثياباً عادية... ثياب يأتي فيها الناس إلى مدرسة» تقول.
روان أيضاً تفحصت زميلتها قبل أن تقرر الإفساح لها كي تجلس قربها. غير أن ابتسامتها المرحبة تحوّلت سريعاً إلى خجولة عندما لم تستطع التحرك بسهولة على المقعد الصغير بسبب سمنتها. «شايفة الصحة شو بتعمل» قالت ضاحكة في محاولة لإيجاد مخرج مرح بعدما رفعت المقعد معها وهي تحاول الوقوف. لكنها لم تكن بحاجة لذلك، فعدد كبير من الأهالي حملوا المقاعد الصغيرة مع كل محاولة منهم للتحرّك، ما أثار ضجة كبيرة في الصف وتعليقات ساخنة استدعت تأنيباً من الناظرة: «كان يفترض أن يبدأ الاجتماع قبل ربع ساعة... لا يجوز هذا التأخير، الأساتذة ينتظرونكم».

الأهل يحاسبون الأساتذة

يجلس الأهالي بسرعة بعد هذه الملاحظة ويستمعون من الناظرة إلى تفاصيل يومهم الطويل، حيث سيتعرفون إلى معلّمي أولادهم وملاحظاتهم على المواد التي سيلقنونهم إياها والمساعدة المطلوبة منهم في هذا الإطار.
«طلبت مني ابنتي أن أراقب مس نوال، قالت لي إنها ترتدي ثياباً جميلة دائماً». تقول روان لمريم. الأخيرة كانت تبحث في الصف عن أشغال ابنها «يفترض أن تعرضها المعلّمة لأنه يرسم بشكل ممتاز، لكني لا أجد شيئاً على الجدار، من رسم هذه الصور؟».
«إنها معلّمة الرسم، ستتعرفون إليها في الحصة الأخيرة فتخبركم عن مواهب أولادكم، الآن ستتعرفون إلى مدرّس الرياضيات» تقول الناظرة، وتنسحب أمام المدرّس الشاب الذي يدخل الصف مبتسماً ويبدأ بالتعرّف إلى الأهالي معلّقاً بعد كل اسم: «ابنك ممتاز»، «ابنتك شاطرة»، «ابنك يلتهي كثيراً لكنه ذكي»، «ابنتك بدها انتباه، لا تركز إطلاقاً»...
ملاحظات الأستاذ السريعة غير كافية، لذلك تنهال الأسئلة والشكاوى عليه من الأهالي دفعة واحدة: «الفروض كثيرة. يكفي أن يحلّوا تمريناً واحداً بشكل صحيح ويفهموه، أفضل من أن يحلّوا خمسة ويخطئوا فيها». يحاول الأستاذ أن يجيب فيعاجل بشكوى ثانية: «يقول ابني إنه لا يفهم في الصف وإنك لا تكرّر ما تشرحه... لا وقت عندي لأعيد شرح الدرس له في البيت».. مجدّداً يفتح الأستاذ فمه ليجيب فتشكو إحدى الأمهات: «أنت اتهمت ابني بأنه سرق ممحاة زميله ولم تصدّقه عندما نفى، ابني لا يسرق، زميله كان يكذب». هذه المرة تأتي الإجابة من والد التلميذ الذي سُرقت ممحاته: «وأنا ابني لا يكذب، هناك من سرق ممحاته، ليس على قيمة الممحاة لكن يجب أن يتربى الولد على أن السرقة عيب».
هكذا تضيع الطاسة، ويتحوّل نقاش الرياضيات إلى تحقيق يحاول خلاله الأستاذ أن يشرح ملابسات «سرقة الممحاة»، ولا ينجح في العودة إلى «مادته» إلا بعد ارتفاع الصوت وتدخّل الناظرة مجدداً طالبة تأجيل قضية الممحاة المسروقة إلى اجتماع يعقد خصيصاً بين المعنيين مباشرة بالقضية.
لكن المشكلة لم تمر مرور الكرام لدى مريم: «كيف يمكن أستاذاً مثله أن يكون مسؤولاً عن صف فيه أطفال وهو غير قادر على إدارة حوار جدّي بين الأهالي؟» تتساءل بصوت مرتفع فتضيف زميلتها: «لو تشاهدين معلّمة اللغة الإنكليزية وهي تصرخ على الأطفال محاولة إسكاتهم! أنا شاهدتها قبل أيام. تفقد أعصابها بسرعة، لكن «بيناتنا» معها حق. أضرب مثلاً ابني الكبير الذي لا أعرف كيف يتحملون شقاوته».
لا تتأخر مريم في التعرّف إلى معلّمة اللغة الإنكليزية. والأخيرة وجدت نفسها فجأة في صف يغصّ بلغة العم سام. فقد تبارى الأهالي في إبراز موهبتهم في هذا المجال أكثر من أي حصة سابقة. تقرّر مريم التدخل وتطلب من الأهالي أن يحكوا بالعربية «لأني لا أفهم الإنكليزية»، ما أضحك المعلّمة التي تعرف أن مريم كانت مقيمة في أميركا.
حيال هذه الهجمة على اللغة الإنكليزية وجدت مريم شكواها بلا قيمة «كنت أريد أن أقول للمعلّمة إن ابني يتقن الإنكليزية أكثر من العربية وإنها تصحح له بشكل خاطئ. مثلاً، محت له كلمة hardworker وكتبت مكانها he works hard. أريد أن أفهم لماذا؟ أين الخطأ في هذه الكلمة؟
«فضّلت مقابلة المعلّمة على انفراد، علماً بأني كلما طلبت موعداً لأحكي معها أجابوني: انتظري الاجتماع العام».

والد غاضب

يأتي صوت رجل من الخلف ليعلّق على هذا الحديث: «وأنا أيضاً أريد الحديث معهم على انفراد. لا يهمني كل ما يحكونه عن مناهج وأسلوب تدريس، يعنيني سلوك ابني الذي يتغيّر» يقول بنبرة غاضبة ومرتفعة، تلتفت إليه المعلّمة وتعرف أنه والد التلميذ الذي يحتل المرتبة الأولى في الصف فتبدي اهتماماً لسماع رأيه. يكمل: «لا يعنيني مستواه الدراسي ولا العلامات التي يحصل عليها، إنما سلوكه. فجأة تحوّل إلى طفل عدائي، «يفسّد» على إخوته وعلمت أنه يسبب مشاكل مع زملائه في الصف ويعدّ المقالب. أريد أن أعرف لماذا؟».
«لا تعرف؟» تقول امرأة بلهجة المنتصر أو كمن سيكشف سراً: «ألم يخبروك أنهم وضعوا معهم في الصف طفلين معوّقين؟ يريدون تطبيق برنامج الدمج على حساب أولادنا. ابني صار معقداً ويقلّد زميله المعاق في كل الحركات التي يقوم بها».

«يي... وكيف؟ وعن جد؟..»

تعليقات تصدر عن البعض تخمدها المسؤولة عن الشؤون الاجتماعية بالحديث عن فوائد دمج المعوّقين في المجتمع على الطرفين: «يعرف الطفل الصحيح أن هناك أشخاصاً مختلفين عنه ويعرف الطفل المعوّق أنه يستطيع خوض غمار الحياة مع الآخرين».
«إيه لكننا لا ندفع كل هذه الأقساط لكي يتعقّد أولادنا» تقول السيدة نفسها. فيعلّق الوالد الذي سبق وأدلى بحديثه: «وأنا أيضاً لا أدفع الأقساط لكي يكون ابني مع أطفال غير مهذبين لا يحترمون أحداً. لقد فسدت تربيته في هذا الصف».
تعود الضجة إلى الصف وتضطر الناظرة إلى التدخل مجدداً. تكرّر لهم أهمية الاجتماع: «يعطي التلميذ أفضل ما عنده عادة في الفصل الأول. بعده يتراخى. هذا الاجتماع ضروري لتعرفوا كيف تتعاملون مع أبنائكم في البيت تكملة للسنة الدراسية».
ملاحظة تخيف الأهالي فعلاً فيستكينون ويستقبلون المعلمين الواحد تلو الآخر مستمرين في تقديم الملاحظات: «لماذا تسألين ابني عن «المفعول به» وأنت لم تشرحي له بعد؟» تقول سيّدة، فتبتسم سيدة أخرى وتقول: «لماذا لم تشجعي ابني عندما أعطى الجواب الصحيح عن سؤالك؟ كل رفاقه في الصف لم يجيبوا... قولي له برافو. ضعي له نجمة على جبينه. شجعيه. شجعيه».
على هذا المنوال تتوالى الحصص إلى أن يضيق الأهالي ذرعاً بالسجن الذي وجدوا أنفسهم فيه. ولا يعود النظر إلى الساعة مقتصراً على شخص واحد فقط بل الجميع مداورة «كأننا عدنا إلى المدرسة وصرنا ننتظر موعد الفرصة أو انتهاء الدوام».

الناظرة تَحْسم

بناء عليه، يبدأ البحث عن أسباب للتذمر. الورشة الملاصقة لمبنى المدرسة سبب كافٍ، فالضجة التي تحدثها لا تتيح للأهالي الاستماع بهدوء إلى ما تقوله لهم الناظرة هذا الصباح.
«هل يدرس أولادنا في هذه الضجة؟»
يسأل أحد الآباء فتجيبه الناظرة بتأكيد حاسم: بالطبع لا. الورشة لا تعمل إلا بعد انتهاء الدوام الدراسي. لا مجال للنقاش، اعتاد الأهالي منذ كانوا تلامذة عدم مناقشة الناظرة. و«اعتادوا» أيضاً الاستخفاف بمعلمة الرسم التي تستقبل، ما أن تدخل الصف، بابتسامات مصطنعة وتنهال على سمعها عبارات الاعتذار من المغادرين الواحد تلو الآخر: «زوجي يعود باكراً اليوم»، «الأولاد وحدهم في البيت»، «سامحيني، أتصل بك لاحقاً لأسألك عن ابني»...
تبقى مريم جالسة مكانها، تراقب الأهالي الذين تحلّقوا في الممر لتبادل أرقام هواتفهم تمهيداً لتبادل المساعدة لاحقاً في حال تغيّب أولادهم. تبتسم لمعلّمة الرسم منتظرة منها سؤالاً عن سبب بقائها، فتلمح دموعاً في عينيها: «عندما درست الرسم في الجامعة كنت أبكي يومياً لأني تأخرت في التعرّف إلى كبار الرسامين وتعلّم التقنيات الأوليّة... أحاول أن أوضح هذا الأمر للتلاميذ، أروي لهم قصص الرسّامين وأحزن عندما يتساهلون في رسم ما أطلبه منهم. لكني بعد ما رأيته من أهاليهم لا أعرف من ألوم».


فردية، روتين وغياب للاهتمام

يشكّل المثال أعلاه حصيلة أربع مقابلات مع أهالي تلاميذ في الصفوف الابتدائية، وأستاذ ومعلّمة في المرحلة الدراسية نفسها. تمت صياغته بالتركيز فقط على بعض المشاكل التي تعترض الأهل لجهة علاقة أطفالهم بالمدرسة، علماً بأن هناك الكثير من المشاكل الأخرى التي لا تقل أهمية، نعرض بعضهالجهة الأساتذة، توضح رانية، وهي مدرّسة للغة الفرنسية، أن الأهالي الذين يزورونها للسؤال عن أبنائهم هم فقط أهالي التلامذة المجتهدين «قد تكون العلاقة سببية بين اهتمام الأهل واجتهادهم». مشيرة إلى أن مشكلتها الأساسية تكمن في مكان آخر: «المنهاج الجديد مختصر جداً ولا يمكنني الاتكال على التلاميذ ليقرأوا قصصاً وحدهم في البيت. هناك حاجة جدية إلى مراجعة المنهاج».
ويقول أستاذ للرياضيات تجاوز الخمسين إنه تعب من التعليم: «الدروس نفسها والتمارين نفسها. هذا الروتين يجعلني غير قادر على تقبل التلميذ الكسول أو الغبي، ويعتقد الأهل أن دفعهم للرسم يعفيهم من مسؤولية المتابعة في المنزل».
أما لجهة الاهالي، فيشكو عضو في لجنة أهل تابعة لمدرسة ذائعة الصيت من «التجارة المربحة» التي تمارسها مدرسة أولاده على أكثر من مستوى، والاستخفاف الذي يبديه الأهالي بدور لجان الأهل: «في أحسن الأحوال يمكن القول إن هناك بروداً في التعاطي مع الإدارة وعدم إدراك للحقوق والواجبات. وفي أسوأها، وهذا الغالب، يلجأ الأهالي إلى البحث عن حلول فردية لمشكلات أولادهم بعيداً عن معالجة جذرية... لا يفهمون العمل الجماعي، وهذا يؤسس تربية خاطئة للأولاد الذين سيبنون المجتمع».