إبراهيم الأمين
الاختراقات التي يجري الحديث عنها في المفاوضات بين بري والحريري لم تتجاوز إطار المكاشفة التي تأخرت بسبب انقطاع التواصل بين الفريقين. لكن جوهر الامر أن الفريقين لا يزالان عند مواقفهما. وفي الاجتماعات الثلاثة جرى التعامل مع أفكار عدة ومتنوعة، لكن الإجابات عن السؤالين المركزيين ظلت هي هي.
قال الحريري لبري: هل تضمنون إقرار المحكمة الدولية سريعاً؟ فردّ بري بنعم. ليسأله الحريري: وما هي الملاحظات التي لديكم على المشروع الموجود حالياً؟ فيجيب بري: سنعرضها في اول اجتماع للجنة المشتركة المفترض بها درس الموضوع.
يتولى بري الكلام فيسأل الحريري: هل توافقون على حكومة وحدة وطنية يشارك فيها الجميع؟ يجيب الحريري بنعم. فيعود بري الى السؤال: هل تضمنون منح المعارضة الثلث الضامن الذي يحقق المشاركة كاملة؟ يتراجع الحريري الى الخلف ويقول: إنه ثلث معطل ولنبحث عن وسائل أخرى.
يخرج الجانبان من الاجتماع مع كثير من الكلام. وثمة توافق على الآتي: بري معني بإشاعة أجواء التفاؤل لمواجهة حالة التشنج القائمة في البلاد ولإدراكه أن التسوية أمر محتوم في نهاية المطاف، ولأنه يستجيب لطلب سعودي بتسهيل الامور. أما الحريري فهو معني بالقول إنه لا يشارك في اتصالات تفتقر إلى الأساس الذي يجعلها منتجة. وهو معني بالاستجابة للضغط السعودي عليه بالسير نحو تسوية سريعة، لكنه يريد مخرجاً لأزمة الثلث الضامن.
لعب الطرفان ما أمكنهما من مناورات. لا يحتاج رئيس المجلس الى خبرة في هذا المجال. لكنه مضطر لأن يكتشف نوعاً جديداً من المفاوضين. هو لا يعرف سعد جيداً، بخلاف الآخرين. لم يكن هناك تاريخ من العلاقة بين الطرفين، ولا سعد في الموقع الذي كان فيه والده. لم يقل الرئيس الراحل مرة إنه مضطر لمراجعة هذا او ذاك في مسألة بهذه الحساسية. لكن الحريري الابن ليس مضطراً لأن تنكسر صورته أمام جمهوره أو أمام الحلفاء لمجرد أنه فُوّض إليه التفاوض مع بري.
في الاجتماعين الثاني والثالث. لعب الرجلان على الحبال. قال الحريري لبري إنه يثق بأنه مع إقرار المحكمة الدولية، وهو مع إدخال تعديلات من شأنها طمأنة الجهات اللبنانية الى عدم حصول تسييس: «لكن قل لي يا دولة الرئيس، ما هي العناوين الخاصة بما ترونه ضروروياً للتعديل؟ لماذا ننتظر اللجنة، قد تكون الملاحظات بسيطة وقابلة للبت سريعاً من دون لجنة، وساعتها لا نضيّع وقتاً على هذا الأمر وننتقل الى البحث في الأمور الأخرى».
يردّ بري مبتسماً: «الأمر لا علاقة له بما لدينا من ملاحظات. هناك إطار سياسي وهناك إطار قانوني، ومن شأن اللجنة مناقشة كل التفاصيل، لكن المهم ليس ملف المحكمة وحده. والحل بهذا الشأن متصل بالحل المتعلق بملف الحكومة. ولنترك الأمر يتم بشكل سليم».
يلجأ الحريري الى آخر ما تعلّمه عن أصول التفاوض: «إذا أعطيتني الملاحظات وبدا الأمر قابلاً لعلاج سريع فهذا يساعدني على الآخرين من الحلفاء لتسيير أمر الحكومة، وساعتها قد يكون القبول بصيغة 19 + 11 أمراً سهلاً ولا تعقيدات فيه».
عند هذا الحد يحرك بري ما لديه من حواس. يخرج ثعالبه، لكن ليس من الضروري أن ينتبه الآخر الى وجودها، أو أن يفهم معناها، لأن الحديث سرعان ما يعود الى أفكار للعلاج، وكلها يضعها الحريري في إطار «المخرج المشرف للجانبين، وضرورة عدم الخروج بحل من شأنه إظهار هذا مهزوماً وذاك رابحاً». وينقل البحث الى تفاصيل اضافية: لماذا نقول بحكومة من ثلاثين ولماذا لا نصغرها الى 24 أو الى 16 مثلاً؟. يرد بري بعدم الممانعة، لكن تصغير الحكومة يترك أثره على مروحة التمثيل لأن هناك قوى كثيرة سوف تتأثر بالأمر، ولكن ــــــ يعود بري ليذكّر محاوره ــــــ ما هو مطلوب أولاً هو الجواب على مبدأ الثلث المعطل، ويشرح: 11 للمعارضة من اصل ثلاثين و9 للمعارضة من أصل 24 و 6 للمعارضة من أصل 16 فما هو الموقف؟ وكالعادة يعود الحريري الى إبراز تقديرات وتحليلات من دون أن يقدم جواباً حاسماً يفتح الباب أمام نقاش أكثر عملانية للقضايا الأخرى.
ومع أن الحريري حرص في الجلسات الثلاث على عدم النطق بموافقته على منح المعارضة الثلث المعطل، فقد حاول مراراً ربط الأمر بمناخات وأمور اخرى، سواء من خلال الإلحاح على سماع الملاحظات على المحكمة الدولية او العودة للحديث عن صيغة تدمج النقاط السبع في البيان الوزاري بما يحقق هدفاً سياسياً ودبلوماسياً لفريق الموالاة إزاء مصالحها من جهة، وإزاء التزاماتها الخارجية من جهة ثانية. ويشرح هذه النقطة بالقول إن هناك من يريد توافقاً على كل شيء بما في ذلك مسألة سلاح المقاومة، والنقاط السبع توفر المطلوب لأنها تفرض انتشاراً كاملاً للجيش دون غيره على كل الاراضي اللبنانية. وعند هذا الحد يعود بري ليذكّره بأن جدول الاعمال لا يشمل هذه النقطة.
يبتعد الحريري قليلاً، يأخذ وقتاً للتشاور مع الحلفاء ويسافر، ثم يعود ومعه الامور نفسها. مزيد من الأفكار ومزيد من المناورات، لكن دون الجواب الحاسم والمطلوب عن السؤال المركزي الذي يتصل بالثلث المعطل. وهو الأمر الذي لا يغيّر في الواقع شيئاً. فتكون الخلاصة المنطقية لما جرى الآن هي: نقاش وأفكار وابتسامات ورضى سعودي واسترخاء لبناني، أما في النتائج، فالأمور عند حالها، علماً بأن الفريق المسيحي في 14 آذار يصرّ على رفض الثلث المعطل بغية تقليص مساحة الحضور العوني في الحكومة الجديدة، بينما يصر الفريق المسيحي في المعارضة على تثبيت بند قانون الانتخابات في صلب الاتفاق وليس هامشاً أو حاشية.
وفي هذا المجال، يحاول فريق 14 آذار الاستناد الى رسالة بري الى القيادة السعودية وهي تتضمن بنداً يخص قانون الانتخاب لكن من زاوية إقراره ضمن الحكومة لاحقاً، بينما يريد طرفا المعارضة الأبرز مسيحياً، اي عون والنائب السابق سليمان فرنجية، تثبيت الأمر كجزء من خلال القول: إن اللجنة التي ستكلَّف إقرار تعديلات على مشروع المحكمة وستناقش الصيغة الجديدة للحكومة، يمكنها أن تبت في الوقت نفسه صيغة قانون الانتخاب. وإن اقرار القانون يكون بالتزامن مع إقرار المحكمة من جديد وإعلان الحكومة بتركيبتها الجديدة.. وفي هذا المجال ليس هناك مناورة، بل ثمة التزام قوي لدى فريق المعارضة المسيحي، وهو التزام يرمي بثقله على الحلفاء من المسلمين أكثر مما يُلزم الآخرين من الشركاء في البلاد...