strong>ربى أبو عمو
  • الجرعة المخدّرة: كلمتان على السيرة الذاتية «لديّ خبرة»

    تشكّل فترة التدريب التي يخضع لها الطلاب أثناء دراستهم الجامعية أو بعدها صلة الوصل بين الجامعة والعمل. لنقل إن هذا ما يفترض أن يكون عليه الأمر، إذ ترتبط هذه الفترة، التي تتيح الحصول على “شهادة خبرة”، في ذهن كثير من المتدرّبين بمصطلحات من قبيل “الاستغلال” أو “العتالة”

    طالب صيدلة يمسح الزجاج في الصيدلية التي يعمل فيها، محام متدرّج يشتري الخضار لزوجة صاحب المكتب، طالب هندسة يقوم بتشحيم المصاعد...
    هذه نماذج عمّا يقوم به الطلاب من أعمال، ليس تأميناً مصاريفهم، بل تنفيذ لطلبات أصحاب المؤسسات التي توافق على استقبالهم متدرّبين لديها أثناء دراستهم الجامعية، وغالباً من دون تقديم أي أجر مهما كان رمزياً.
    لا ينفي عدد منهم أنه يحصل على خبرة في النهاية “لكنها نادراً ما تتعلّق بالمهنة، بل بالحياة وطريقة نسج العلاقات ودفع الرشوة ودخول سوق التنازلات”. من هنا يمكن فهم النبرة الساخرة والمرتفعة التي يعتمدها الشباب خلال إجابتهم عن سؤال عن فترة التدريب التي خضعوا لها.
    يتكئ نبيل على مكتبه الخشبي المنزوي في غرفة نومه. يتصفّح كتاب القانون المتخم بالأحكام القانونية، وهو يدرك في داخله أن كل هذه الصفحات لا تحميه كـ“متدرّج” ترك “الستاج” بعد أربعة أشهر من “العتالة” كما يعبّر.
    “كنت أتدرّج في مكتب محامٍ يُفترض أنه طيّب السمعة، لكني وجدت نفسي أعمل سكرتيراً تقتصر مهمته على تلقي الاتصالات الهاتفية. وكثيراً ما تحوّلت من مشروع محامٍ إلىoffice boy، يُحضِر الخضار لزوجة المحامي”. أما في المرّات النادرة التي عمل فيها نبيل في مهنته فـ“كان الأمر يقتصر على حضور جلسات وإيصال أوراق للموكلين”. ويؤكد نبيل أن حالته ليست خاصة به، فصديقه لم يحظ بفرصة التدرّج في مكتب محامٍ إلا بعد أن قام بنفسه بتغيير أثاث مكتبهلكنه يعترف بأن صعوبات المهنة التي اختارها تجعل الكثير من المتدرّجين يوافقون على الشروط “المُذِلَّة”: لا يمكن التقدّم بطلب اختبار للانتساب إلى نقابة المحامين إلا من خلال المكتب الذي نتدرّج فيه. وبعد العثور على المكتب، يجب العمل فيه ثلاث سنوات في المكتب ليصبح محامياً بالاستئناف، طوال هذا الوقت “لا يتوقف المحامي عن طلب مصروفه من أهله، وخصوصاً أن هذه المهنة تحتّم أيضاً ارتداء ثياب لائقة والظهور بمستوى اجتماعي معين”.
    لا ينكر علي أن للتدرّج حسناته، منها “اكتشاف مختلف القضايا التي قد يستقبلها مكتب المحاماة، حضور جلسات في المحاكم، متابعة إجراءات الدعاوى ومراجعة الملّفات، كتابة لوائح، وغيرها من الأمور”، لكن السلبي عادة يُلغي الإيجابي “بما أن أغلب المحامين لا يعطون المتدرّجين تكلفة مواصلاتهم الكثيرة أو يغطّون قيمة “الرشوة” الضرورية لتسهيل إنجاز المعاملات”.

    جزمة وبنطلون ممزّق

    وضع المهندسين ليس أفضل حالاً، هذا ما يقوله أيمن، الطالب في السنة الثالثة في كلية الهندسة في الجامعة العربية: “يقومون باستنزاف طاقاتنا إلى آخر نقطة، تحت شعار: الاستفادة من اليد العاملة المجانية”.
    تدرّب أيمن لمدة يومين في شركة “أوتيس”: “بصراحة تفاجأت، كنت أعتقد أن فترة التدريب تعليمية، لا استغلالية. طلبوا مني الوقوف تحت المصعد لتشحيمه وشعرت مرات عديدة بأنه سيقع عليّ، لا يوجد مهندس يقوم بالتشحيم”. ويؤكد أن كلّ زملائه خضعوا للمعاملة نفسها وخرجوا مجمعين على عبارة: “بدك جزمة وبنطلون ممزّق، لتفوت بالجو”. المشكلة التي واجهها عماد في شركة “خطيب وعلمي” مختلفة: “لديهم الكثير من العمل، ولا يستطيع مهندس واحد أن يتولى تدريب عشرة طلاب”.
    سقراط، الطالب في السنة الثانية في كلية السياحة، يذهب أبعد من ذلك في تقويمه لفترة التدريب: “تفتقر المؤسسات إلى سياسة تدريبية تقوم على استفادة الطرفين، أي المتدرج والمدرّب، لذلك يسود مبدأ استنزاف طاقات المتدرج بحجة إفادته، وفي هذه الحالة، تنعدم المساواة بين الطرفين. من جهة أخرى، فإن العامل النفسي مهمّش، إذ إن غالبية المؤسسات لا تفكر باحتضان المتدرج الآتي إلى بيئة جديدة”. وتتجلى قمة الاستغلال برأيه في غياب البدل المادي الذي يمكن أن يقتصر على المواصلات في أسوأ الأحوال حتى لا يشعر المتدرّب بأنه يدفع من جيبه الخاصهذه الخلاصة هي حصيلة فترة التدريب في أحد الفنادق المشهورة في بيروت التي يروي تفاصيلها “المهينة” كما يصفها. “حدّد لي المدير موعدين لمقابلته ولم يأتِ، لأنه مدير”، يعلّق ساخراً. وفي المرة الثالثة أصرّ على الانتظار ووصل به الأمر إلى الصراخ حتى حدّدت له مديرة أخرى جدولاً يفرض عليه دواماً من ست ساعات يومياً. لكن بشرط “ارتداء زيّ خاص به يميّزه عن بقية الموظفين في الجريدة، وهذا أمر أشعرني بالعنصرية”. لهذا عمد سقراط إلى الانتقام من خلال قيامه بتحريض الموظفين بعضهم على البعض الآخر وعلى المسؤولين عنهم “ما أثّر سلباً على عملهم” يقول بشماتة من تعلّم “الاستفادة قدر المستطاع من المُتاح، وتعطيل أي فرصة يستفيد من خلالها الفندق”.

    مزاجية المسؤول

    كان الانفعال واضحاً على صوت ريما حين قالت: “إنهم يستغلون شبابنا وحماستنا”. تتوقف عن الكلام لتأخذ نفساً عميقاً، كأنها تريد إيقاف شريط حياتها. تقول إن التدريب في المؤسسات الإعلامية المكتوبة يبقى جيّداً بالمقارنة مع المهن الأخرى “لأن المتدرّج يحصل على مبلغ من المال لدى كتابته تحقيقاً أو مقالاً”. لكن... لا يخلو الأمر من استغلال. فهي تقوم بالكثير من الأعمال المكتبية التي لا تتقاضى عنها بدلاً: “طلب مني مسؤول المجلة التي أتدرّب فيها مساعدته في الأبحاث أو ترجمة بعض الأخبار، هذا عمل يستغرق وقتاً، لكنه لا يعترف به”.
    غير أن هذا لا ينفي أن المتدرّب يكتسب الخبرة الضرورية كما يحتك بصحافيين كبار “إضافة إلى أن تكرار النشر يسهم في تكوين اسم في الوسط الإعلامي”. أما ما لا تنساه ريما فهو قيام مسؤولة صفحة في جريدة برمي موضوع كتبته في وجهها لأنه لم يعجبها: “هذا الأمر لا يمكن أن يُمحى من ذاكرة أي صحافي”.
    هناك نوع آخر من الاستغلال الذي تواجهه الفتيات يعبّر عنه علي حين يشير إلى زميلته التي تركت المكتب “لأن المحامي كان يرسلها إلى القاضي للقيام بالمراجعات ولم يخجل من القول لها: الباقي عليكِ”.
    السؤال الذي يطرح نفسه: لماذا يتحمّل الشباب كل هذا الاستغلال الذي يحكون عنه؟ وتأتي الإجابة جامعة: هي جرعة مخدّرة مؤلفة من كلمتين تضاف إلى الـسيرة الذاتية التي سيحملونها بحثاً عن عمل: “لديّ خبرة”. عمل قد لا يجدونه، وإذا وجدوه فلا أحد يضمن لهم أن أربابه لن يكونوا أقلّ استغلالاً لهم فيه.




    البدل إذا توفّر... فللمواصلات

    “هم بحاجة لنا وليس نحن”.
    هذا شعار غالبية المؤسسات اللبنانية التي ترى أنها تقدّم خدمة تطبيقية للطلاب، وبالتالي هي غير مجبرة على دفع بدل مادي لهم نظير الأعمال التي يقومون بها. هذا بخلاف العديد من أنظمة الشركات العالمية التي يشكّل عدد الطلاب المتدرّبين لديها أساساً في بناء استراتيجياتها العملية ورسم موازناتها السنوية.
    أما المؤسسات التي تدفع للمتدرّبين في لبنان فتكاد تكون معدودة على أصابع اليدين، وهي تدفع بدلاً رمزياً لا يكاد يكفي لأجرة المواصلات كما شركة mtc touch التي تشرح المسؤولة عن التنسيق مع الجامعات بشأن المتدرجين فيها ريا صقر آلية استقبال المتدرّبين لديها: “نستقبل سنوياً نحو ثلاثين متدرّباً، وشرطنا الوحيد لقبولهم هو أن يكونوا طلاباً، وتدفع الشركة لهم بدل مواصلات رمزياً”.
    هذا البدل الرمزي يدفعه أيضاً بعض المحامين، لكن بصيغ ملتبسة مثل “عيديات” أو “نسب على القضايا التي يأتي بها المتدرّج إلى المكتب”.
    من جهة ثانية لا تهتم هذه المؤسسات بحجم الاستفادة التي تقدمها للطلاب، وتحت حجة “ضغط العمل” قد يبقى المتدرّب شهوراً في المؤسسة من دون أن يتاح له فعلياً الحصول على أي معلومة مهمة. وفي وقت يتحفظ عدد من أصحاب المؤسسات عن الكلام في هذا الموضوع، يشرح مدير “صيدلية مازن” حسن سروجي بأن “ضغط العمل الكبير في الصيدلية لن يتيح للمتدرّج العمل في الصورة التي يرغبها أو قد يكون كوّنها عن المهنة”. لكنه يشير إلى دور على “المتدرج أداؤه، هناك صيدلي حشري قد يتميّز عن غيره بحبه للمعرفة فيكون لجوجاً في طرح الأسئلة على موظفي الصيدلية غير المجبرين عادة على تقديم معلوماتهم على طبق من فضة”.