جان عزيز
بكركي مع مناصفة حرفيـة وعـون لإنقــاذ الحد الأدنى وبقــرادونــي للانفتــاح والباقــون صامتــون

منذ قيام الجمهورية الثانية عبر اتفاق الطائف في تشرين الأول 1989، شكل قانون الانتخاب هاجساً وجودياً لدى المسيحيين. كان وجدانهم السياسي العام قد أدرك أن زمن أرجحيتهم في النظام والدولة قد ولّى إلى غير رجعة، وأن عهد «التساوي بين المسلمين والمسيحيين»، الذي نصت عليه وثيقة الطائف، ومن ثم الدستور المنبثق منها، في المادة 24 منه تحديداً، إنما قد يتحوّل توازناً صورياً شكلياً، لا يلبث أن ينقلب إلى أرجحية إسلامية فعلية، وكل ذلك بسبب الديموغرافيا، وعبر وسيلة واحدة اسمها قانون الانتخاب.
لذلك يقول عرّابو الطائف إنه لم تكن مصادفة أن مسألة هذا القانون أُنزلت في الشق الملتبس من صياغات الوثيقة، مثلها مثل الانسحاب السوري. ففيما عرف المسيحيون يومها أن موازين القوى والواقعية الوجودية تفرض عليهما صياغة الهوية العربية للبنان، وتقليص صلاحيات الرئاسة وسواها من المسائل الأساسية بلغة صريحة، أدركوا أيضاً أنه لا مجال للاتفاق الجلي على قانون الانتخاب. فجاءت صيغة التسوية المبهمة: المحافظة دائرة، إرضاءً لمطلب المسلمين، لكن بعد إعادة النظر في التقسيم الإداري، تهدئةً لمخاوف المسيحيين وتأجيلاً للمعضلة. لكنها لم تتأجل كثيراً. أقل من سنتين، بدأت بعدها الوصاية السورية فرض قراءتها للطائف، ومنها قوانين الانتخاب.
وخلال تلك الفترة الممتدة طوال 14 سنة، بدا أن حل هذه المسألة ليس بالأمر اليسير، ذلك أن هذا القانون يشكل الأساس المادي الأول لتكوين السلطة. وحيال هذا الأساس الجوهري تبلورت نظريتان متناقضتان، الأولى تمثّلها بكركي والقوى المتكوكبة حولها، وتقول بعلاقة جدلية حتمية بين الدوائر الانتخابية من جهة وفلسفة ميثاق العيش المشترك من جهة أخرى. منطق هذه النظرية واضح: إن علّة وجود النظام اللبناني الحالي تكمن في تلك الفقرة «ي» من مقدمة الدستور: «لا شرعية لأي سلطة تناقض ميثاق العيش المشترك». غير أن الدستور نفسه لا يقدم أي تعريف أو تحديد لاحقين لمفهوم هذا الميثاق، باستثناء «التساوي» في عدد النواب، المشار إليه في المادة 24 منه. وبالتالي فإن هذا «التساوي» هو جوهر «الميثاق». وكل ما يخلّ بالأول يسقط الثاني، وينزع بالتالي الشرعية عن سلطة النظام. يبقى السؤال: كيف يتوافر هذا التساوي الميثاقي الدستوري؟ جواب بكركي صريح: في دوائر انتخابية تسمح للمسيحيين بانتخاب نوابهم...
في المقابل كانت ثمة نظرية مقابلة، وكان أكثر من تحلّى بالجرأة الأدبية لطرحها نيابة عمّن كانوا ولا يزالون في السلطة، النائب السابق ناصر قنديل. ومفادها أن قانون الانتخاب، كما ورد في الطائف، هو جزء من مقتضيات الوفاق الوطني، تماماً كما مفهوم السيادة. بمعنى أن المسلمين يدركون أرجحيتهم العددية في لبنان. ويدركون بالتالي أن الديموغرافيا المسيحية لا تؤهّل أصحابها للحصول على نصف المقاعد النيابية. غير أن «ميثاق» الطائف تضمّن تنازلاً إسلامياً عبر الإقرار بالتساوي العددي، في مقابل تنازل مسيحي عبر الإقرار بالقبول بقانون انتخابي لا يعطيهم حق انتخاب النصف الكامل المخصص لهم.
طوال 14 سنة فهم الطرفان عمق الأزمة، وتغاضيا عنها على طريقة «الغموض الخلّاق»، ورضيا بكذبة «البلد ماشي». غير أن إفادة مسلمي السلطة من الهيمنة السورية ذهبت أبعد من ذلك الغموض. فإذا كان الطائف السوري قد أعطى المسيحيين نصاً، نصف النواب، وبالتالي أكثر مما يؤهّلهم عددهم لاستحقاقه، فإن الطائف السوري نفسه أعطى المسيحيين فعلاً، وطوال 4 دورات (92 ــــــ 96 ــــــ 2000 ــــــ 2005)، 15 في المئة من عدد النواب في أقصى الأحوال، وبالتالي أقل مما تؤهّلهم ديموغرافيتهم لحيازته.
هكذا بين النظريتين المتناقضتين، وخصوصاً بين فجوة حساب «التساوي» الدفتري وحساب النواب الأقل من العشرين الواقعي، استمرّت الأزمة حتى صارت مأزقاً.
في 26 نيسان خرج السوري من لبنان. هرولت طبقته السياسية إلى استلحاق ذاتها للبقاء في السلطة. ولدت «الحريرية السياسية» من تزاوج القوتين السنّية والدرزية الأساسيتين وملحقات مسيحية وشيعية. صمد قانون كنعان ـــ الحريري، أطلقت بكركي إنذارها في 12 أيار، أرسلوا إليها مسيحيّيهم حاملين رسالة وقحة: «نحنا مشينا، دبّر حالك سيدنا»، قام التحالف الرباعي... فتولّد الانفجار الذي كمن أشهراً قبل أن يصير واقعاً، على طريقة الثورة التي تأكل أبناءها...
مع حركة إنضاج التسوية للأزمة الراهنة، تنبّه طرفان مسيحيان، إلى الفرصة السانحة: نسّق البطريرك الماروني وميشال عون موقفيهما، وأعلناه كلٌّ في اتجاه «محاوريه»: نريد قانوناً انتخابياً متوازناً وفق قاعدة «التساوي» الدستورية الميثاقية نفسها. غير أن التدقيق في هذا الموقف والفرصة، يكشف وجود أربعة اتجاهات مسيحية واضحة:
ــــــ 1 ــــــ اتجاه أول تمثّله بكركي، عنوانه التمسّك المبدئي الكامل بالحساب الرقمي الجامد لنظرية التساوي. «لقد أعطانا القانون 64 نائباً، ونحن نريد أن ننتخب 64 نائباً». قالها سيد الصرح، متخطياً حقائق الديموغرافيا وتغيّراتها ومنطقها، متشبّثاً بمبدأ المناصفة الميثاقية «من دون عدّ»، كما عبّر عنها ذات مرة ألبير منصور. وهذا الاتجاه دفع بكركي في مسألة قانون الانتخابات إلى التزام مسلّمتين اثنتين: رفض قاطع لأي حديث عن النسبية، تعبيراً عن رفض الاعتراف بتحوّل المسيحيين من واقع المناصفة إلى المثالثة، والتلويح بالدائرة الفردية، من دون الدخول في تفاصيلها، وخصوصاً لجهة فاعلية الحجم المتوقع للدائرة الفردية، كما لجهة حسن تمثيلها لنواب المذاهب الصغيرة.
ـــ 2 ـــ اتجاه ثانٍ مثّله ميشال عون، عنوانه الممكن، التعامل بواقعية مع المعطيات اللبنانية كافة. وهو اتجاه عبّر عنه «التيار الوطني الحر» بالمقترحات التي تقدم بها إلى الهيئة الوطنية لقانون الانتخابات. وفي جوهرها محاولة «إنقاذ» الحد الأقصى من المقاعد النيابية المسيحية، من دون الوقوع في استحالة النصف الكامل، أو السقوط في محذور التهميش المسيحي. وبلغ حساب الأفكار العونية المقترحة، نحو 57 نائباً مسيحياً من أصل 64، مع التسليم بالعجز عن «إنقاذ» المقاعد السبعة المتبقية. والاتجاه نفسه عاد عون فأكده بعد صدور مشروع اللجنة الوطنية في أيار 2006، عندما أعلن رغبته في تبنّي نتيجتها، والتقدم بها اقتراحاً باسم نواب تكتله، بعد إضافة تعديلين اثنين عليها: توحيد محافظة جبل لبنان على غرار المحافظات الأخرى، وخفض عدد النواب إلى رقم اتفاق الطائف نفسه، أي 108 بدل 128، ما يساعد على إنقاذ مقاعد مسيحية إضافية.
ــــــ 3 ــــــ اتجاه ثالث مثّله مسيحيو السلطة، وكان عنوانه الوحيد: الصمت الكامل والمطبق. لا اقتراح قانون، ولا مناقشة للمطروح. لا حديث عن رأي في تقسيم انتخابي أو توزيع دوائر، ما دفع إلى الاعتقاد بأن المصلحة الانتخابية لهؤلاء لم تعد في إطار المصلحة المسيحية العامة، وخصوصاً إزاء ما كشفته الانتخابات الأخيرة من وصول نواب الأكثرية المسيحية بأصوات غير المسيحيين. وعلى رغم أن البعض يتحدث اليوم عن تغييرات في المزاج المسيحي، لم يجرؤ بعد على قول كلمة واحدة عن قانون الانتخاب.
ــــــ 4 ــــــ أما الاتجاه الرابع، فمثّله حزب الكتائب اللبنانية قبل فترة، والبعض يقول إن كريم بقرادوني شخصياً هو حامل هذا الطرح، وعنوانه التطلّع عبر قانون الانتخاب، إلى تطوير النظام اللبناني في اتجاه صيغة أكثر استقراراً وثباتاً ونهائيةً. وفي تفاصيل هذا العنوان نوع من البحث في التوجّه التدريجي نحو إلغاء الطائفية السياسية، مقابل قانون انتخابي متمتع بحصانة دستورية ميثاقية، يجعل من الجغرافيا الثابتة ضمانة لحسن التمثيل، تنوب عن الديموغرافيا المتراجعة والمتبدّلة.
بين هذه الاتجاهات الأربعة المتقاربة أو المتباعدة، عادت نغمة «القضاء» وقانون 1960، حلاً وسطياً آنياً، إذا ما صحّت إرهاصات التسوية، وإذا ما كانت للمسيحيين فيها فرصة وحصّة. ماذا للمستقبل؟ يبدو أن البعض يتعامل معه على طريقة الرهان على موت إمّا الملك، وإمّا الوزير وإمّا