نقولا ناصيف
لم تبدّد المواقف التي رافقت أو أعقبت اليومين الأسودين، الثلثاء والخميس الفائتين، الانطباع بأن خطراً جدياً يتهدّد اللبنانيين ودولتهم، وبأنهم على شفير حرب أهلية. بل قوّم طرفا النزاع أحداث هذين اليومين انطلاقاً من تمسّك كل منهما بشروطه المسبقة للحل، وكأن شيئاً لم يحصل. أو في أبسط الأحوال كأن في وسع أي منهما أن يتيقّن من أن ما حصل لن يتكرّر.
لكن ما وقع يستوجب بضع ملاحظات تنطوي على خطر ينبئ الجميع بأن أحداث الخميس، خصوصاً، ليست سوى جولة أولى في سلسلة تنتظر من يفتعل حلقاتها في التوقيت «المناسب»:
أولى هذه الملاحظات، أن حرباً أهلية جديدة تقع بين اللبنانيين لن تكون فيها هذه المرة خطوط تماس، على نحو تمرّسهم بها كما في «ثورة 1958» بين الجميزة والبسطة، وبين المختارة ودير القمر. ولا كما حصل في «حرب السنتين» عامي 1975 و1976 بين شطري العاصمة على طول طريق بيروت ـــــ دمشق مرسومة بعناية من المرفأ حتى كفرشيما صعوداً إلى عاليه. وراء خطوط التماس تلك تحصّن السياسيون والمسلحون واثقين من أن ثمة مَن كفل استمرارها وصمودها وعدم اختراقها. بل الأصح أن حرباً أهلية جديدة بين اللبنانيين ستكون أقرب إلى حربين خبرهما لبنانيو ما قبل «لبنان الكبير» عامي 1842 و1860، مع انطواء الإمارة الشهابية، فاتحة الحروب الأهلية اللبنانية.
بذلك ينتقل الاقتتال إلى قلب الأحياء التي تتداخل فيها الطوائف والمذاهب بين زاروب وآخر، وعمارة وأخرى، وهكذا تنفتح حرب أهلية لا مكان فيها لخطوط تماس يتخفى وراءها النزاع السني ــــــ الشيعي، والمسيحي ــــــ المسيحي، وربما الدرزي ــــــ الدرزي، تحت وطأة التشنج المذهبي. الأمر الذي يعني أنه لا أحد من هؤلاء الأفرقاء سيكون في وسعه أن يزعم سيطرته على مملكة مذهبية صافية، تجعله في مأمن من التهديد.
وليست حرب الشوارع الصغيرة بعد ظهر الخميس حتى المساء إلا مثالاً للمطاردات القاتلة المتنقلة بين الأحياء المتداخلة مذهبياً.
ثانيتها، أن ادعاء الزعماء اللبنانيين أن في وسعهم السيطرة على مناصريهم وعلى ردود فعلهم، يبدو ضرباً من الوهم. ولعلّ الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله كان أول مَن أدرك حقيقة أن الإمساك بالشارع ليس سلطة مطلقة. فقاده ذلك، للمرة الأولى مذ تزعّم حزب الله، إلى إصدار فتوى دينية تحرّم الاقتتال بين المسلمين، وتدعو أنصاره إلى إخلاء الشوارع. وقد لا يجد في المرة المقبلة مَن يصغي إلى الفتوى نفسها، وقد لا تكون فتوى ثانية إذا انتهك منتهكٌ الفتوى الأولى.
وفي واقع الأمر فإن الاحتكام إلى فتوى دينية انبثق من عجز سياسي كان نصر الله قد تغلّب عليه أكثر من مرة، عندما كان أنصاره يخرجون غاضبين، كما حصل في حزيران الماضي بعد الحوادث التي تلت برنامجاً تلفزيونياً تهكم عليه، ثم على أثر حوادث قصقص في مطلع كانون الأول وسقوط قتيل هو أحمد محمود.
ولم يكن الأمين العام لحزب الله سبّاقاً إلى مثل هذا التحريم، إذا كان لا بد من التذكير بموقف البطريرك الماروني مار نصر الله بطرس صفير عام 1990 عندما هدّد الرئيس ميشال عون وقائد القوات اللبنانية سمير جعجع بإلقاء حرم الكنيسة عليهما إذا لم يوقف الأول الجيش اللبناني، والآخر ميليشيا القوات عن الاقتتال من حيّ إلى آخر في بيروت وبعبدا والمتن وكسروان منذ 31 كانون الثاني. لم يستجب الرجلان ولم ينفع تهديد البطريرك، ولم يحرمهما، واستمرت حربهما، وانهار المسيحيون وآلتهم العسكرية. فكيف الأحرى إذا كان لا بد أيضاً من التذكير بأمر مماثل حصل في كانون الأول 1985، عندما أقسم جعجع والرئيس السابق للهيئة التنفيذية للقوات اللبنانية الياس حبيقة على «الإنجيل المقدس» بعدم الاحتكام إلى السلاح، فإذا بهما، بعد أيام، في 15 كانون الثاني 1986، يوقعان عشرات مئات القتلى المسيحيين في المناطق الشرقية من أجل ما كانت تريده دمشق، وهو «الاتفاق الثلاثي».
وهكذا قلما يُنجد اللبنانيين احتكام قادتهم وزعمائهم إلى ربّهم وكتبهم المقدسة عندما يتعلق الأمر بالصراع على السلطة.
ثالثتها، أن تجربة اليومين الأسودين اللذين خبرهما الجيش وهو يحاول التفريق، تارة بين المتظاهرين المتشابكين كالثلاثاء وطوراً بين المسلحين الذين يطارد بعضهم بعضاً كالخميس، أبرزت أن المؤسسة العسكرية تستمد فاعليتها من الحل السياسي، وتجد مقتلها عندما يناط بها حل عسكري أو أمني لمشكلة سياسية. يعني ذلك أن دور الجيش رهن الحل السياسي الذي يمكّنه من الاضطلاع به ومن حماية النظام والاستقرار. في المقابل إن أي انقسام سياسي داخل الحكم، وخصوصاً في السلطة التنفيذية، يجرّد الجيش من كل قدرة على فرض الأمن وسيادة الدولة. والواقع أن التفاهم السياسي غير المباشر بين المسؤولين اللبنانيين، وتحديداً بين قطبي السلطة التنفيذية وهما رئيس الجمهورية ورئيس مجلس الوزراء مساء الخميس، هو الذي أتاح للجيش إعلان حظر التجوّل في كل بيروت، علماً بأن قراراً كهذا يجب أن ينبثق من المجلس الأعلى للدفاع برئاسة رئيس الجمهورية وفي حضور رئيس مجلس الوزراء، الأمر الذي لم يحصل، فاقتصرت إجراءات الجيش على تفاهم جزئي بين الرئيسين. فهو من جهة لا يوسّع نطاق الدور الأمني للجيش لئلا يبتلع الحكومة، ولا يُقدم من جهة أخرى معالجة سياسية لمشكلة اكتفي بإطفائها موقتاً. والمقصود بذلك أن حظر التجوّل لم يفضِ إلا إلى سحب مسلحي الطرفين من الشوارع وإعادة الهدوء. بيد أن المشكلة لا تزال عالقة بشقيها: الأول المتعلق بسلاح انتشر بكثافة في أيدي طرفي النزاع، وقد اكتشفه الجيش عن قرب. والثاني أن الحل الأمني بَرّدَ التشنج المذهبي السني ــــــ الشيعي ــــــ الدرزي ليس إلا.
وبإزاء مغزى الامتحان الذي واجهه الجيش، للمرة الأولى منذ إعادة بنائه عام 1990 بعد الحرب اللبنانية، وطرح للمرة الأولى أيضاً علامات استفهام حيال صمود وحدته وانضباطه وهو يواجه حرب شوارع مسيحية ــــــ مسيحية، ثم سنية ــــــ شيعية ــــــ درزية، تبدو حكومة الرئيس فؤاد السنيورة في المأزق الأكثر تعقيداً: لا هي قادرة على استخدام الأكثرية المطلقة في مجلس النواب، ولا الاستفادة الجدية من غالبية الثلثين في مجلس الوزراء من دون رئيس الجمهورية ورئيس مجلس النواب، ولا قادرة على ضبط الشارع الذي احتلته المعارضة، ولا قادرة خصوصاً على أن تأمر بمفردها الجيش لحمايتها هي وفرض هيبة دولة متآكلة ومنع حرب أهلية يشترك فيها بعض أطراف الحكومة.
وقد تكون بعد أقل من ثلاثة أسابيع، هي والغالبية النيابية، على أبواب مشكلة أنها غير قادرة على إحياء الذكرى الثانية لاغتيال الرئيس رفيق الحريري، في المكان الذي انطلقت منه «انتفاضة الاستقلال» في ضوء جملة المعطيات هذه وسواها حتى ذلك الوقت.