الدوحة ـــ جان عزيز
رؤية المنطقة ولبنان وتطوراتهما، مختلفة عن السائد اليوم، للناظر من قطر ودوحتها. قد تكون زاوية المشاهدة المفتوحة من ذلك النتوء على الخليج، هي السبب. وقد تكون العلّة في هذه التوليفة السياسية الفريدة، بين ممثليّة إسرائيل هنا، ومقر للشيخ يوسف القرضاوي هناك، وما بين الاثنين من مروحة واسعة من الأفكار والأشخاص والمواقع والمواقف. وقد تكون الرؤية المتميزة معزوّة إلى شعب صغير يطمح إلى دور خاص، وقد بدأ ينسجه خيطاً خيطاً، من احتياطي الغاز الكبير، إلى احتياطي الشهادات الجامعية الأكبر، إلى حس نقدي متميّز ومتّقد، تجاه كل ما حوله، وكل ما لا يريد الركود عنده، وكل ما يصبو إليه.
في البدء المتميّز المتفرّد، تقرأ أوساط قطرية رفيعة المستوى أزمة المنطقة الخليجية والشرق أوسطية بأنها، في العمق، أزمة مصالح سياسية دولية لا غير. أما الحديث عن البعد المذهبي المؤسّس لبعض أبعاد الصراع، فتنفيه كلياً، لتشرح: إنها مجرد وسائل ذرائعية لبعض الداخل وبعض الخارج. في الداخل ثمة أنظمة تجهد للحفاظ على استقرار هيكلياتها وبُناها وأشخاصها، وهي تستعين لذلك بما تعتبره سنداً لها في بقائها في السلطة والحكم، على طريقة «يا أهل السنّة هبّوا لمساعدتنا».
من المقصود بهذه الأنظمة النافخة في الأبواق المذهبية لحسابات شخصية؟ تتحفّظ الأوساط القطرية الرسمية عن التسميات، مع أنها تشير إلى تصاريح ومواقف معروفة المصادر والنسب. غير أن أوساطاً أخرى في الدوحة، تتحدث بصراحة أكبر، ولو عن جهة واحدة، مع إمكان القياس والاستدلال حيال جهات أخرى: إيران في النهاية هي فارسية في الداخل، شيعية في الخارج وحسب. فارسيتها الداخلية تعني بناء دولتها القوية، وشيعيتها الخارجية لا تعني غير إحاطة نفسها بخط دفاع ثان، يضيف إلى دائرتها النواتية الأولى، دائرة ثانية مكوّنة من أكثر من 150 مليون شيعي خارجها... وقس على ذلك، لفهم مواقف الأنظمة الأخرى.
غير أن المصادر الرسمية القطرية تبدو أكثر صراحة ونقداً، في شرحها لأهداف بعض الخارج في تصوير أزمات المنطقة وكأنها مذهبية الطابع: البعض يطمع بثروات هذه المنطقة المتراكمة، ويسعى إلى استدرارها عبر إدخالنا في حروب بينية، أو على الأقل في أجواء من الحرب المحتملة أو المرجّحة أو الوشيكة، كي نندفع كلنا في سباق تسلح محموم، ننفق فيه على أدوات الموت ما يفترض بنا إنفاقه على سبل جعل الحياة أفضل وأوفر. هذا إذا لم تصل هذه النيات إلى الحرب فعلاً، ليصير استدرار خيرات منطقتنا أكبر وأخطر.
هل ترون الحرب واقعة إذن على الضفة المقابلة؟ الاستعدادات الأميركية جديّة، وتنذر بالأسوأ. لكن الكثيرين في الدوحة يراهنون على... حكمة طهران. فيما تراهن قلة على احتمال عجز واشنطن عن الحرب، نظراً إلى كون الرهان على إرادتها أمراً غير مضمون، نظراً إلى السوابق والشواهد والتجارب.
هل يمكن هذه القراءة القطرية أن تكون مجرد محاولة دفاع ذاتي في وجه العدوى المذهبية المتنقلة في الجوار؟. قطعاً لا، تجيب مصادر دبلوماسية قطرية واسعة الاطلاع: الشيعة في قطر أصلاً أقلية ضئيلة جداً. كما أن اندماج المذهبين في المجتمع القطري إيجابي جداً، ولم يثر أي إشكال قط. ثم إن الفضاء التنموي لهذه الدولة يبدو متّسعاً لجميع الناس، وهذا ما يدركه غير القطريين فكيف بهؤلاء. حتى إن قطر تحسب لنفسها مناعة في هذا المجال إزاء أزمات جوارها. فهي ماضية في بناء جسر البحرين، ولم تقم أي حساب لهمس المنامة، حول الأكثرية الشعبية الشيعية في مقابل الحكم الملكي السني.
مناعة تظهر نفسها كل يوم، عند كل محطة وحدث ومناسبة: يأتي إلى الدوحة شمعون بيريز، فيطلب منه القطريون محاورة «حماس»، علماً بأن معلومات ترددت عن اجتماعات قيادية لهذه الحركة، شهدتها العاصمة القطرية قبل وصول بيريز بيومين فقط. تقيم واشنطن قواعدها العسكرية على أرض قطر، فيما طهران حريصة دوماً على أفضل العلاقات معها. تدعى الدوحة إلى المشاركة في مؤتمر باريس ـــ 3 فتلبي الدعوة، لكنها تقدم الدعم المالي مباشرة إلى بيروت، من دون الرعايات الباريسية التسويقية، ومن دون وسطاء العواصم الغربية وعمولاتهم في السياسة وغير السياسة.
وما دام الحديث قد وصل إلى باريس ـــ 3، فماذا عن الأزمة اللبنانية؟ تجيب المصادر القطرية المطّلعة: ثمة رجل يجب متابعته حين يتحرك، واسمه بندر بن سلطان. إنه اليوم في هذه الوضعية، وواجبكم رصد كل خطوة منه وكلمة. بندر كان الوسيط الأميركي للحل الذي اقترحته واشنطن على ليبيا، والذي نجح وسلك طريق التنفيذ. وبندر نفسه كان الوسيط الأميركي للحل الذي اقترحه البيت الأبيض على عراق صدام حسين، قبل أن يفشل ويتّجه الطرفان إلى الحرب. تحرك بندر اليوم بين الرياض وطهران هو الرسالة الأميركية الأخيرة ربما إلى إيران، بأن عليها الخيار بين النموذجين.
هل الوضع اللبناني مرتبط حرفياً وبهذه الدقة بهذا الصراع؟ تأمل الأوساط القطرية الرسمية ألاّ يكون لبنان متأثراً بالكامل بهذا السياق، وغير منفعل كلياً بتطوراته. في لبنان، يجب ألاّ ينتصر فريق على آخر. هذه مصلحة لبنان، وهذه هي مصلحة جواره، كل جواره، ومصلحة المنطقة، وكل المعنيين بقضاياها. وقطر تحرص على إبلاغ هؤلاء كلهم، من دون استثناء، بأن مصلحة الجميع في بيروت وخارجها ألاّ يكون في لبنان غالب ومغلوب، وقطر تسعى إلى تحقيق اقتناعها هذا، بكل الوسائل التي تملك.