أنسي الحاج
«بلى، في الحقيقة، يبدو لي أن الشياطين تتقاذف الكرة بواسطة روحي...»
(القديسة تيريز دافيلا)

هل يستحقّ اللبنانيون التلاعب بهم؟ إذا اعتمدنا المناطق الجغرافيّة ــ السياسيّة قاعدةً، والمداورة إيقاعاً، قد يستحقّون. فبعدما تفرّجوا على التلاعب بغيرهم جاء دورهم.
الفلسطينيّون سبقونا. السوريون ذاقوا صدمة الانقلابات وندم الوحدة. ورماديّة الحياة في ظلال الديكتاتورية. العراقيّون لا تنتهي مآسيهم واليوم بلغ التلاعب بهم حدوداً ملحميّة. الجزائريّون. السودانيّون. استفاد اللبنانيون من متاعب العرب. استفادوا بحبوحة اقتصاديّة وليبراليّة سياسيّة وثقة بالنفس. ثم جاء دورهم. مرّة محدودة عام 1958 ومرّة مفتوحة ومستمرة منذ 1975. المستغرب، نظراً لوجود سوريا وإسرائيل على حدودنا، أن تكون متاعبنا قد تأخّرت. كان طبيعياً لو بدأت من زمان وعلى نطاق واسع. لقد كان لبنان منذ إعلان استقلاله بل منذ إطلاق اسمه في التوراة وتواريخ الأغارقة والرومان، مخالفة اجتماعيّة وسياسيّة في قلب منطقة تتنازعها الأمبراطوريات الدمويّة والاندفاعات العرقيّة والجحافل المدجّجة بالجوع المخيف إلى افتراس الأرض والبشر. بلد موجود وغير موجود. تارة هو محض جبل وطوراً أيضاً ساحل. حيناً في لبنان وحيناً من لبنان إلى عريش مصر. هو والشام أو هو جبل في الشام. على الدوام نظام المواسم. يومٌ لك ويومٌ عليك. بل أيّام عليك. وتاريخ هذه النقطة الفاصلة مغمور وغامض وتدوينه تحت رحمة «الأجانب» وميول «الشاطرين» من أبنائه.
هل يستحقّ اللبنانيّون التلاعب بهم؟ في المبدأ لا أحد يستحقّ هذا الألم. في المطلق ما كان شيء يوجب انهيار الجنّة. لكن لدورات القوّة والتاريخ منطقاً آخر لا علاقة له بالأخلاق. ولا بإقامة دولة قوّية أو الفشل في إقامتها. الاتحاد السوفياتي كان ثاني أكبر دولة في العالم وأحياناً الأول. في الفضاء وفي مساحة الرقعة الهائلة التي بسط سيطرته عليها. وتهاوى وصار نَسْياً منسيّا. المتقاذفون يتقاذفون لبنان لا لأنه يفتقر إلى دولة قويّة بل لأن شعوبه لا تزال قبائل وهذه القبائل فروع لأصول خارجيّة أقدر وأقوى وأكبر منها. ربما لو قامت دولة جبّارة في لبنان لصهرت القبائل في بوتقة الوطنيّة ولكنّها كانت أيضاً ستسحق في طريقها صفات لا معنى للبنان بدونها وأبرزها فوضاه الضاربة جذورها في فجر التاريخ. فوضى خلّاقة بلا حاجة إلى تخطيط وثورات وحروب بل بمحض الحريّة التي يتشارك فيها هواء الجبل مع رحابة البحر وعقل اللبناني مع روحه ومصالحه وجهازه العصبي وأخلاقه أو قلّة أخلاقه. كان ممكناً وسيظلّ ممكناً نشوء دولة جبّارة في لبنان أو مجيء ديكتاتور يحاول أن يكون «عادلاً»، لكنّ ذلك لن يعدو كونه مخالفة لروح البلد وقَدَره. الدولة الوحيدة المرجوّة والقابلة للعيش هنا هي تلك الهيئة الرسميّة والشرعيّة التي توفّر للناس النظام المَدَني والأمن والخدمات. الباقي ينتجه اللبنانيون. وينتجونه أفضل من أيّة دولة. الشعوب بأقدار مختلفة. البدوي إذا حرمته الخيمة أتْعَسْته. الألماني إذا حَرَمْتَه الدولة قَتَلْتَه. الفرنسي إذا شوّهت لغته كما يحصل الآن اقتلعتَهُ من عبقريّته. الروسي إذا دَجّنْتَ شغفه قطعتَ رأسه. اللبناني إذا حاولتْ جميع القوى اعتقال فرديّته لنجحت في تعذيبه وتقتيله وأخفقت في «مصادرته».
حتى حيث هم في السجون، اللبنانيون أحرار.


هذا هو عقابنا. لا لأنّنا لم نشارك في الحروب العربية ــ الإسرائيلية ولا لأن دولتنا متساهلة رخوة متواطئة مع الفاسدين من الأهالي، بل لأن الحريّة تمكّنت منّا حتى باتت تُعْدي مَنْ حَولنا وتشكل خطراً على هيبة الدولة وسطوة النظام عند الآخرين. وكما قلنا، قبائلنا متصلة بجذور خارج الحدود، وكما تأخذ منها تعطيها. في المستقبل على قبائلنا، إذا أرادت الاختلاف، أن تُحيّد قضيّة الحريّة وتختلف على كل شيء آخر. فإجماعها حول الحريّة هو دعامة قوّتها وخزانة احتياطيها. وهو ضمان سلامة لبنان في عزّ العواصف. ولتتفق القبائل على تعزيز دولة شغلها الشاغل حماية الحريّة. الحرية للرأي والتعبير والإيمان والإلحاد والقول والصمت. ولا يكون ذلك بنظام سياسي ساحق كما يظن البعض بل بزيادة الوعي الشعبي والنخبوي لقيمة الحريّة كمكوّن عضوي مادي ــ روحي للشخصيّة اللبنانية عبر الأزمان من أبسط مواطن فقير إلى كبير القوم ومنارة الحيّ وزعيم القبيلة. من أبو عبد البيروتي إلى أحمد فارس الشدياق وجبران خليل جبران. من السَكَرْجي الطفران إلى الناسك والراهبة. من شوفور السرفيس إلى عميد الجامعة. زيادة الوعي الشعبي لمعنى هذه الحرية و«تدريب» الطبقة السياسية على فضيلة أخلاقية واحدة على الأقل هي تنزيه هذه الحرية، الوديعة المقدّسة، عن التوظيف ضدّ الذات. التوقّف عن استعمالها في التناحر وعن إهدائها إلى الطامعين والمستعمِلين. وطبعاً هذا يحتاج إلى تربية حثيثة منذ الصغر في البيت والمدرسة.
لو لم تكن الحرية في المبدأ أطهر من أن تُصاب بأعراض الشيخوخة والاهتراء لحوّلها تخلّفنا السياسي وهبوطنا الأخلاقي إلى معاق وجثّة. لكنّها صمدت. غير صحيح أن ضريبة الحريّة هي الدم فقط بل حسْن المعاشرة أيضاً. أنْ نحميها لا من عشّاق الحرام فلعلّهم أولى بها ممن نسوا جوهرها لفرط اعتيادها، بل من الكارهين لها، وهم كثر، فكما للحريّة مناخ عاشق، للقمع والاستبداد مناخ عاشق. الحريّة ليست إرثا مشتركاً بالقَدْر نفسه عند الجميع. لا عند جميع الشعوب ولا في جميع الثقافات ولا بين جميع الأفراد.
بصرف النظر عن قِيَم الرحمة استقطب اللبنانيّون ما حلّ ويحلّ بهم كما دائماً كانوا يستقطبون الضربات كلّما شطحوا في التميّز والانفتاح والتجرّؤ. فلا أحد في المنطقة يتحمّلها. لا ماضياً ولا حاضراً. هذه المرة طالت علينا «الدورة» أكثر من غيرها. لكن الفلسطينيين أيضاً ما زالوا على الصلبان. وغيرهم مرشّح. وبعض الذين ليسوا على صلبان ليسوا على أفضل منها بكثير. المهمّ ألاّ تُكفّرنا حالنا إلى حد ارتكاب خطأ فادح في تشخيص العلاج. العلاج لا هو مستبدّ عادل ولا دولة جبّارة ولا اضمحلال في المحيط. العلاج في المزيد من الحريّة وفي إقامة دولة غاية غاياتها حماية هذه الحريّة. لقد أصاب اليأس كثيرين منّا وربما أسقطهم في الموت. لكن آخرين يصل بهم اليأس إلى قاع معكوس، فيعيد توليد الحياة فيهم وعلى يدهم.
يستطيع الأميركيّون ووكلاؤهم مواصلة «رعاية» التلاعب بنا إلى «النهاية». قد تكون نهاية لأيام سعيدة وحياة سهلة لكنّها لن تكون نهاية لجهاز مناعة تاريخي مُشرّش يعصى على التحطيم، وعند الحاجة يتعايش مع مختلف التقلّبات والمثالب وأنواع الغباء ويصمد إلى أن يستعيد أنفاسه ويستأنف فعله وتوهّجه و«مخالفته» المدهشة لمحيطه ولأبعد من محيطه.
يتلاعب الشياطين بروحنا ولحمنا ونحن أيضاً شياطين. بدورنا وعلى طريقتنا. طريقة الشيطان المتمرّد المتنوّر في الأسطورة: ذلك الملاك الذي رَفَض الخضوع.