جان عزيز
يروي أحد الذين حضروا وحضّروا مصالحة أمين الجميل وكريم بقرادوني، أنه بعد سلسلة اتصالات تمهيدية وبالواسطة، اتفق الاثنان على زيارة رئيس الحزب لرئيس «جمهوريته»، في منزل الأخير في بكفيا. كان الاثنان يتهيبان اللحظة، ويقلقان لكيفية كسر جليدها. فجأة حلّت المصادفة لتخدمهما بذلك. عند وصول كريم الى منزل العائلة، كان ثمة شاب ضاجّ، يحمل حقيبة ظهر، يخرج من البيت بعصبية وحدّة ظاهرين، ينظر الى الضيف الوافد بعدم ود ــ في أحسن الأحوال ــ قبل أن يصفق الباب بعنف تردد صداه بين الزائر والمضيف. تلاقى الاثنان، بين حرج وتفاجؤ، استفهم كريم بلغة عينيه، فأجاب أمين بلغة اليدين، فولدت مصالحة كتائبية، لمّت كل «العائلة» في «الوطن»، إلا واحداً، صفق أبواب البيت والحزب وجيل الوالد والجد وكل المتصالحين، وخرج الى «لبنانه».
سامي الجميل ورفاقه في «حلف لبناننا»، الذي استهل باكورة كلامه السياسي أول من أمس، ليس من باب «المشاهَد من قبل». صحيح أن في الشكل بعضاً من رموزية مكررة، لكن مقصودة: الأشرفية «البداية» المقلّدة مع كل من أعقب بشير، قاعة مدرسة راهبات القلبين الأقدسين، مسرح «الانتفاضات» الكتائبية والقواتية، قبل أن ينضبط أبطالها لاحقاً في إطار فكر جورج أورويل «الحيواناتي»، عمر العشرينيات، كلمات نصف مرتجلة، لغة لبنانية... وعيون تحلم.
وصحيح أيضاً أن في المضمون عنواناً ليس بجديد: «الفدرالية»، تلك المفردة المنكوبة مسيحياً منذ 30 عاماً كاملة. بداياتها كانت على ما يُروى مع موسى برنس. كان الراحل بين البارابسيكولوجيا والمحاماة والتحزّب لفتى العروبة الأغرّ، يجد بعض الوقت لحديث عن كانتونات وفدرلة. بعده، حلّت المفردة ضيفة سرية في الكسليك، دراسات استراتيجية وأبحاث وكتيّب مغفل: «لبنان الكبير مأساة نصف قرن»، قبل أن تحل «المياكولبا»...
في خلوة سيدة البير، لم تجرؤ على التصريح، ظلت في إطار «التعددية الحضارية». ثم دخلت المفردة بعض قاموس بشير، سكنته ملتبسة قلقة متفارقة، مع مفردات أخرى مناقضة، من بقايا القومية اللبنانية وتراث «رحم الصيغة» وحزبها، حتى جاء فيليب حبيب، فسكتت.
بعد بشير بدأت حقبة الفوضى السياسية والمرجعية والمفهومية. ردود فعل انفعالية، تماماً كما جرى حين خرجت مشروعاً غب الطلب لكميل شمعون وبيار الجميل في لوزان، انتهى بلبنان عربي الهوية والانتماء، وبدولة مركزية قوية. حتى جاء سمير جعجع بمشواره الطويل المتقطع، من «الفرز السكاني» أيام الدير، الى «إلغاء الطائفية السياسية» في حكومة «الحلف الاستراتيجي» الحالية، وبينهما محطة فدرالية. ومعه تكاثرت ردود الانفعال: ميشال عون انتقدها ثم حيّدها ثم تجاهلها. بكركي لم تبلغ حدّ التمييز بينها وبين التقسيم. وعشرات المواقف المؤيدة أو المتقلبة، من شارل حلو وجورج خضر، حتى ورثة كمال جنبلاط غير الثابتين الا في الوراثة...
لكن الصحيح أيضاً أن ما طرحه سامي الجميل ورفاقه أول من أمس، جديد فريد، يعطى للمرة الأولى. كيف؟ ثمة ثلاثة مكوّنات متلازمة في ظاهرة «حلف لبناننا»، تصنع في تلازمها وترابطها، هذه الفرادة: جذرية الطرح وديموقراطيته وصفاءه.
أولاً، جذرية الطرح. لأنه للمرة الأولى بعد السيادة، ثمة فريق سياسي يطرح أن الأزمة في لبنان ثلاثية الأبعاد: أزمة هوية، وأزمة دستور، وأزمة أداء سياسي: قراءة جذورية لمبدأ التعددية الحضارية، وحل فدرالي دستوري كامل، بدأ «حلف لبناننا» إعداده، وقد بلغ مرحلة استشارة الفقهاء الدستوريين في شأنه، داخل لبنان وخارجه. ونفحة ثورية تجديدية، في مواجهة طبقة سياسية ترتبط بأركان «لبناننا» بأكثر من علاقة ونسب مقطوعين.
صحيح أن الكثير من هذا الكلام مأخوذ من كتابات فردية ومواقف شخصية لأفراد حزبيين أو ناشطين أو مفكرين، لكن ذلك لا يخطئ القول بأنها المرة الأولى، حيث يقف فريق سياسي ليدعو الى حل دستوري اتحادي مركّب «يحفظ حقوق الفرد من هيمنة الجماعة، وحقوق الجماعة من هيمنة الدولة، وحقوق الدولة في سيادتها واستقلالها».
المكوّن الثاني للظاهرة، ديموقراطية الطرح. في «حلف لبناننا» لا قائد ولا رئيس ولا طامح إليهما بلباس الزهد والتنسّك. القيادة جماعية، من 12 عضواً يؤلفون «المجموعة المركزية»، وهي تكلف لكل مهمة شخصاً. مع وعد بألاّ تتغيّر، كما اعتاد الثوار...
يبقى المكوّن الثالث، نقاء العاملين. فارق أساسي بين هؤلاء وسواهم، أن أحداً منهم لا يحمل أعباء ماضيه، ولا موروثات حرب وارتكاب ولغات مزدوجة. فشريحة أعمارهم، وظروف نضالهم الماضية، حيث لا سلطة ولا طموح، وانعتاقهم من كل بنى المسيحيين المثقلة حتى الإنهاك، كل ذلك يجعل من مجاهدي «لبناننا» صورة غير متضحة بعد لصفاءٍ ثوري مثالي في النهج.
مبالغة؟ طبعاً لا، ما دام الطرح السياسي في ذاته يظل فكرة خاضعة للمناقشة والحوار والتفنيد والإسقاط ربما، لكن من دون محرّمات، ومن دون حروب سياسية وتهويلية وإعلامية، بدأت قبل الأحد وتستمر كل يوم من أصحاب «اللوائح السوداء».
يروي أحد «آباء» الطرح الفدرالي، أنه دخل مرة على بيار الجميل ــ جد سامي ــ محاججاً إياه في رفضه أي حديث عن أي شكل من أشكال «الكيانية المسيحية الذاتية»، فأجابه الجميل: إذا كنت تستطيع تحقيق هذا الهدف ولم تفعل فأنت على خطأ. وإذا كنت لا تستطيع وتحدثت عنه، فأنت على خطأ أكبر.
هل يجترح أعضاء «لبناننا» احتمالاً ثالثاً؟ مسألة تستحق المتابعة في واقع مسيحي لا يهوى إلا التصفيات.