جوزف سماحة
الموجة الأميركية العاتية التي تضرب منطقتنا، ومنها لبنان، منذ سنوات، هذه الموجة انكسرت.
يحق للّذين قادوا هذه المغامرة أن يفاخروا بعدد من الإنجازات.
لقد أنهوا العراق الذي نعرفه، ودمّروا دولته، ووضعوه على شفير الحرب الأهلية الشاملة مع ارتداداتها الهائلة في المشرق والخليج.
قضوا على أي فرصة لتسوية محتملة في المجال الفلسطيني، وحاربوا اختيار الشعب لممثليه، وحاصروه، وأسقطوا الحرم عن احتمال الاحتراب الداخلي، وأرغموا قطاعات ذات ماضٍ وطني على انحياز يجعلها تراهن على نجاح الضغط الإسرائيلي والأجنبي في كسر شوكة السلطة والحكومة.
رعوا «ثورة الأرز» في لبنان التي مهما قيل عن أسبابها الداخلية المشروعة والوجيهة فإنها تبقى جزءاً من المشروع الأميركي الإقليمي.
أرغموا سوريا على سحب قواتها من لبنان بعد أن اختلفوا مع النظام واستفادوا من الأخطاء الكثيرة المرتكبة منذ 1990، وزادوا في العزلة العربية والدولية لدمشق.
هذه نجاحات مؤكدة تنتصب فوق حقل الأنقاض شاهدة على عنف الحملة وعلى قدر كبير من التفكّك والتخلّف في مواجهتها. إلا أن هذه النجاحات كلها معلّقة تقف في منتصف الطريق عاجزة عن استكمال غاياتها وتلقى ممانعات متنوعة. إنها ملفات مفتوحة، أزمات تنقصها الحلول.
مزيج الفوضى العدمية والمقاومة في العراق يظهر محدودية النجاح الأميركي، ويجعله أقرب إلى الفشل، ويسمح لدول إقليمية (إيران، سوريا) بأن تمارس نفوذاً غير مرغوب فيه من جانب واشنطن.
الشعب الفلسطيني بقي صامداً ورافضاً لتصفية قضيته. لقد نجح في عرقلة المشاريع الإسرائيلية الأحادية، وتجنّب الاقتتال، واقترب من حافة الهاوية دون السقوط فيها مبقياً على خيار الوحدة الوطنية حياً وعلى قاعدة برنامج يمثّل الحد الأدنى من الطموحات الوطنية.
إلى ذلك، نجحت سوريا، جزئياً، في فتح ثُغر في جدار الحصار المفروض عليها، وتغلّبت على تحديات تواجهها علماً بأن في وسعها أن تكون أفضل حالاً لو اتّبعت نهجاً داخلياً منفتحاً على المعارضة الوطنية، وأحسنت إعادة صياغة سياستها اللبنانية متخلّصة من كامل تركة الماضي.
أما في لبنان فثمة نجاح مؤكد في قطع الطريق على «قوى 14 آذار» ومنعها من الذهاب في «ثورتها» (المضادة؟) حتى النهاية. توازن القوى اللبناني الداخلي يبقى هشّاً ولكن هناك مؤشرات لاحتمال تعديله بما يناسب القوى المعترضة على الوصاية الأميركية.
لقد أمكن للولايات المتحدة أن تقدم على جردة حساب لنجاحاتها وكبواتها من خلال الجولة الأخيرة لكوندوليزا رايس في المنطقة وسعيها المعلن إلى إنشاء «حلف المعتدلين». لم تثمر الجولة كثيراً. فالمعتدلون العرب يحتاجون إلى ما لم تقدّمه إليهم الإدارة من «تنازل» إسرائيلي ملموس يسمح لهم بتطوير مواقفهم ضد «التطرّف» وتحويلها إلى سياسة رسمية وعلنية و... جريئة.
ليس ما تقدم حصيلة حصرية للموجة الأميركية التي ضربت المنطقة. إنها، فحسب، حصيلة أوليّة. وهي تدلّ على أن هذا هو أقصى ما استطاعت واشنطن تحقيقه، وأن الفشل الأكبر هو في أنها عجزت عن ردع خصومها. لقد كان واضحاً، منذ فترة، أن الصراع المفتوح يقدّم عيّنات عن التعثّر الأميركي إلا أن الاستنتاج الحاسم لم يكن مكتمل العناصر.
لقد حصل العدوان الإسرائيلي على لبنان في سياق هذه الحملة وتعزيزاً لها. إلا أنه لم يفعل سوى مفاقمة أزمتها. فنتيجة الحرب كانت مغادرة واضحة للمنطقة الرمادية. ويعني ذلك أنه، بين سائر المواجهات المندلعة، كانت هذه الأكثر نقاءً على صعيد تحديد الرابح والخاسر. أميركا وإسرائيل لم تربحا. هذا أقلّ ما يقال.
ثم جاءت الانتخابات النصفية يوم الثلاثاء الماضي لتوجّه صفعة مدوّية إلى جورج بوش وإدارته وسياسته. لقد انتقل ملايين الأميركيين، في أقل من سنتين، من موقع التجديد لبوش إلى موقع الرفض العارم له وتحديداً لحربه في العراق. ولقد اضطره الأمر إلى الاعتراف الخجول بذلك وإلى تقديم دونالد رامسفيلد كبش فداء.
ومع أننا لا نعرف بدقّة كيف سيترجم التوازن السياسي الجديد في أميركا نفسه، أي كيف سيترجمه السياسيون، فإننا نعرف، على الأرجح، طبيعة ما عبّر عنه الشعب الأميركي واستحق عليه «شكراً أميركا» من صحيفة يسارية بريطانية.
وهكذا إذا شئنا أن نحدّد تاريخاً ليوم الانكسار الفعلي للحملة الأميركية الجامحة فهو 7 تشرين الثاني 2006 يوم استنتج الناخب الأميركي ما يجب عليه استنتاجه. لقد انتهت مرحلة المد. بدأت مرحلة الجزر التي لا يمكن تقدير دوامها.
يفترض بالقوى الإقليمية المسؤولة عن إنتاج الشروط الموضوعية لهذه النتيجة، يفترض بها أن تسعى للاستفادة من المعطى الجديد.
وإذا أخذنا لبنان مثالاً فمن غير المعقول ولا الأخلاقي ولا الحكيم سياسياً أن تكون إسرائيل والولايات المتحدة قد هزمتا هنا وأن يبقى التوازن السياسي على حاله. إن من «صعد» إلى موقعه محمولاً على الموجة الصاعدة عليه أن يحسن النزول مع الموجة المنحسرة. نقطة على السطر.
إن إزاحة دونالد رامسفيلد واقتراح روبرت غيتس بديلاً منه رسالة في اتجاهين. الأولى إلى واضعي البيض في السلّة الأميركية: كونوا أكثر تحفظاً، أي كونوا أكثر تواضعاً، وأكثر استعداداً للتسوية. إلى الممانعين: لا تبالغوا. فبوش باقٍ في منصبه. وثوابت السياسة الأميركية هي هي. وغيتس صقر بالمعايير كلها إلا، حصراً، إذا نُظر إليه بمقاييس جون بولتون.
ستتعرض السياسة الأميركية لتشذيب لا لتغيير. ستُعاد صياغة العلاقة مع المنطقة على قاعدة الدروس المستفادة من فشل الحملة لتخليص هذه العلاقة من عناصرها الهوجاء. قد تضطر واشنطن إلى قدر من الواقعية وتتجنّب الدخول، في المدى القريب، في مغامرات غير محسوبة وتميل إلى عرض صفقات.
نعم الجسم الأميركي الكبير سيستدير جزئياً وببطء شديد. وهو لن يبالي كثيراً إذا دهس في غضون ذلك بعض اللاعبين الصغار. ليس في لبنان من هو أعزّ على قلب جورج بوش من دونالد رامسفيلد.